16 نوفمبر 2011 22:53
تتعدد المرتحلات الإبداعية في تجربة الكاتب والباحث والمسرحي ماجد عبد الله بوشليبي الأمين العام للمنتدى الإسلامي في الشارقة بين القصة القصيرة والمقالة الصحافية والتأليف المسرحي والبحث الفكري والاقتصادي، وتتلون بطيف واسع من الاهتمامات التي تبدّت في نشاطه المجتمعي أيضاً. وإذا كانت الاهتمامات الفكرية هي الأبرز في هذه الأضمومة وتنعكس حضوراً فاعلاً في أعماله المسرحية ومضامينها ورؤاها فإن الشارقة/ المدينة والتجربة، هي واسطة عقد هذا التنوع وسرّه الخفي الذي يسميه بوشليبي “مزاج الشارقة”.
من اتساع قلب شارقته درَّب روحه على أن تظل واسعة إبداعياً وإنسانياً، وربّى عقله على أن يبحث عن الحكمة ويتمسك بها أنّى وجدها. هذه المدينة التي علمته قراءة الحياة بتأنٍ وتؤده، ومنحته شيئاً من جمالياتها الروحية والإنسانية، وقدمت له عبر انفتاحها على الآخر تجربة في الانفتاح الفكري واحترام رأي الآخر حتى لو اختلف معه والتعاطي معه بجدية من غير مصادرة ولا تحقير.
ولأن مثل هذه المشاعر الحميمة التي تنعجن بها الروح لا يترجمها إلا صاحبها تركنا له خيط البوح ليأخذنا إلى هناك... إلى الطفولة العتيقة بكل ما فيها وما صاغها وشكّلها لتصبح بالنسبة إليه البئر الأولى التي منها يمتح ماءه الإبداعي ومن معينها يتلون عطاءه الفكري في غير حقل ثقافي... إلى البعيد الذي يبقى ساكناً في شغاف الروح... إلى الهوى المعرفي الأول حيث خيط الكلام يبدأ بالذاكرة وينعقد هناك في أقصى نقطة في الروح والوعي...
قراءة الحياة
? دعني أعيدك إلى البدايات الأولى: أول الحب للمعرفة، وأول التفتح الروحي على القراءة والكتابة، وأول منابع الجمال التي شكلتك وصاغت تكوينك الفكري؟ ما الذي بقي منها في روحك وذاكرتك؟
? لا يداخلني شك في أنني كنت من المحظوظين بالنسبة إلى ولادتي ونشأتي؛ فقد ولدت في الشارقة وبالتحديد في منطقة الشارقة القديمة “المريجة” وعلى مرمى خطوات قليلة من المسجد الكبير وسوق العرصة... تلك المساحة الصغيرة في حيزها الجغرافي كانت نصف قطر دائرة لمساحة جميلة من المعمار الإنساني والمادي، وباحة مشرعة على مشاهد ما يزال سحرها حياً في البال لعل أهمها ذلك التنوع الذي أحاط بصباي وإليه أعزو قدرتي على القراءة المتأنية للحياة. فالمزاج المعرفي تنميه البيئة، وكلما تلونت هي تنوع المزاج المعرفي. وإذا كان لي أن أحكي عن معلمين حقيقيين لي فإن الشارقة معلمتي الأولى التي فتحت لي كتاب الحياة وعلمتني أن أغوص في أوقيانوس من المعارف الساحرة بالنسبة لفتى يتهجى المعرفة، ولست أبالغ مطلقاً إذا قلت إن الشارقة صنعت مزاجي الثقافي. ربما يبدو في الأمر بعض الغرابة لمن لا يعرف الشارقة وما تمثله. كان سوق العرصة ملتقى قوافل الصحراء بقوافل البحر، وملتقى الوافدين إلى الشارقة بمزيجها الإنساني والثقافي داخل السور، وكانت هي من هي في هذا التمازج الثقافي فضلاً عما تولده من حراك ذاتي للثقافة. وإذا علمنا أنه مع بدايات القرن بحدود 1929 الميلادي والسنوات التي تلت كان هناك مدارس للبنين والبنات نظامية إلى حد ما، واستقبال للدارسين وإسكانهم، وصالونات أدبية وصحفاً ومكتبات عامة لا تقل عن خمس مكتبات وصحفاً واردة من العراق ومصر والشام ربما تتضح طبيعة المناخ الذي كان سائداً والقوس الواسع نسبياً الذي كانت تفتحه الشارقة على الفكر والثقافة والحياة، لذلك، وبسبب هذا التوهج الخاص بقيت هالة الضوء في قلوب الناس وإن ذهبت المباني وتغيرت الحياة. كانت الشارقة رغم بساطة الحياة تتوفر على جماليات يصعب نسيانها؛ فمهما كنت بسيطاً إلا أنك تقرأ وتكتب وتتفاعل، فبيت جدي حيث نشأ والدي وولدت أنا كان بيتاً يقرأ ويكتب وفيه حفظة حافظات للقرآن، ثم هناك الكتاتيب التي بقي شيء منها، وصمد أمام المدارس الرسمية في منتصف الستينات، وقد ارتدت أواخرها قبل المدرسة وكل صيف، وتعلمت لغة أشبه بلغة الأوائل على صغر سني، فضلاً عن لغة البحر الذي تاخمته وصادقت سفنه وفتنت بموجه وغموضه.
ثم رحل بنا والدي إلى الكويت فأسكننا في وادٍ غير ذي زرع عند ملتقى الصحراء بالماء، في نقطة قصيّة عن المدينة، فشربت شيئاً كثيراً من الصحراء التي عمقت بغموضها هي الأخرى التأمل والصفاء فامتزج الغموضان معاً، وتدخلنْتُ في عوالمهما وحيواتهما وبين يديهما عرفت الطريق إلى مقامات الإبداع والجمال.
ذلك كان كتاب الحياة مفتوحاً على أقنوميها الأكثر أهمية في البيئة التي عشت وترعرت بين أعطافها، أما الكتاب المسطور فكان ذلك الذي نقرؤه للتسلية في البداية إذ لم يكن لنا هناك على صبانا كثير نلهو به، سوى المحيط بنا نتأمله ونلعب بأدواته، ثم تطور الأمر للحصول على معرفة مكثفة قام بإيجازها لنا مدرس اللغة العربية. أنا ابن بيئة هي في الأساس متنوعة وساهمت الرحلة الأولى في تشكيلها لكن مع هذا التنوع إلا أن المشروع واحد ويصب في تشكيل العقل المسلم العربي. ولم يكن تنوع المشارب قاصراً على المكان وحسب، بل اتسع ليشمل أهلي ورحلتي ومدرسين أثروا في تكويني العقلي، بل لا زلت اذكر أن بعضهم كان يتواصل مع والدي من أجل اكتشافي ومتابعتي، ثم جاءت القراءات ثم الحراك الجامعي والمجتمعي والمسرح، لذا فإن الإنتاج في احد هذه الحقول يصب في الرافد ذاته طالما الرؤية واضحة متجذرة في الذات، ويظهر هذا الأمر بشكل جلي في ما أكتب من أعمال مسرحية؛ فـ “البوم” تعالج أسطورة بيع النفس للشيطان من أجل المال، و”الميدور” تعكس أثر التغريب الثقافي على النفس في صورة وباء، و”حمدوس” عن التناقضات التي تصيب الإنسان العربي عندما يحلم بعالم غير واقعي وغيرها من أعمال، فالمصابيح شتى والضوء واحد.
? كيف تنظر إلى التجربة المسرحية في الإمارات حالياً؟
? التكوين هو ما ينقص المسرح الإماراتي لذا وباستثناء مسرح صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي “حفظه الله” فإن مسرح الإمارات يعاني الحضور برصانة الكتابة وحسن احترافية الممثل، باستثناء تجارب تحضر أحياناً وتغيب أحايين كثيرة؛ فإسماعيل عبد الله وصالح كرامة وبعض المجيدين ليسوا ممن يحضرون دائماً إلا قليلاً، والتفرغ الذي سعدت به الحركة المسرحية زمناً طويلاً لم يعد موجوداً، والمحتَرفات المسرحية والمعهد المأمول لا يمارسان الدور المتوقع كما أن حضور الدراما التلفزيونية يستمر في غير صالح المسرح.
وقد استثنيت مسرح صاحب السمو لأنه مسرح وقف على قدميه لكاتب مفكر ثم انه مسرح حافظ على تواصله مع الخشبة وثالثاً فإن حضوره لم يقتصر على جمهور بعينه بل تواصل بشكل جيد مع الجمهور العربي وحتى في الغرب ثم انه يقدم منهجاً حول مسرح الواقع التاريخي والحاضر السياسي والبعد الفكري الإسلامي وبالتالي يشكل استثناء.
أما عن أيام المسرح سواء في أيام الشارقة المسرحية أو مسرح الطفل ومسرح الشباب ومؤخراً مسرح المعاقين فتمثل ميزة للإمارات ثقافياً بلا شك لكن الحديث هنا من قبيل تحسين الحضور الإماراتي في المسرح العربي والعالمي.
بين حُبَّين..
? لكن ما الذي أخذك إلى الاقتصاد وكيف ترى مردوده في بناء ذواتك الإبداعيات؟ اي كيف انعكس وعيك بالاقتصاد على تجربتك المعرفية؟
? ان تقع في حب شيئين يسيران في اتجاهين قد يكونان متعاكسين أمر صعب ما لم تخلق لنفسك مساراً يصنع منك متوافقاً وموفقاً، ولقد كان الأمر على قدر كبير من المشقة، لكن السرّ يكمن في ما أرى في أن الاقتصاد جمع لي شيئين أحبهما؛ الرياضيات التي كان ينفر منها الطلبة فيما كانت تروق لي وتتوافق مع حبي للمنطق والتحليل، والقسم الأدبي الذي كان يوافق ميولي ورغبتي في الكتابة؛ جمعهما لي الاقتصاد في وعاء واحد عندما وصلت إلى الجامعة. وأعتقد أنني وفقت بأساتذة قديرين عملوا في الحقيقة على تكريس وبلورة تكويني هذا فلم يعجزني قراءة شيء بعدها مهما صَعِب مضمونه الفكري، ولم تعد الثقافة هي ما نعمل ونمارس كل يوم من قراءة وكتابة بل أصبحت ما نكوّن من رؤية للمستقبل. لقد فتح لي الاقتصاد أبواباً معرفية جديدة فيما يخص العلاقة مع الثقافة، فالتعاطي مع المخرج الثقافي لا يقف عند المبدع فحسب بل يقدم له تصورات وأنساق نظرية وعملية عن كيفية التعايش مع المجتمع والذي يشكله - شئنا أم أبينا – هو المتغير الاقتصادي، ناهيك عن الفهم العميق والغوص في المحركات الكبرى التي ساهمت في صوغ قسمات الثقافة المعاصرة، فالحراك الثقافي الحديث والمعنى الحرفي للعولمة الثقافية منشأهُ اقتصادي مع اتفاقات التعرفة الجمركية في أواسط القرن السابق، لهذا وغيره أرى أن الاقتصاد أغناني معرفياً وانعكس أثره الإيجابي في كتاباتي وثقافتي ونصوصي المسرحية وأعتقد أنه الدمج بين الثقافة والاقتصاد كان ميلاده طبيعي.
? ما دمنا في الاقتصاد والثقافة، كيف ترى العلاقة بين التنمية الشاملة التي تقوم على الاقتصاد كركيزة أساسية بشكل عام وبين التنمية الثقافية، أين يقف أو ينبغي أن يقف أثر الاقتصادي على الثقافي؟
? إن مفهوم الثقافة لا يقف عند المنتج الابداعي بل يتأثر به، وهو اكثر اتساعاً إذا دخلنا إلى التعريف الأنثروبولوجي باعتبارها كل منتجات المجتمع خلال فترة زمنية، ثم إن الثقافة الاستهلاكية والشمولية والمنتج الابداعي والصناعات الابداعية والحرف التقليدية وغيرها مشتركة في المفهوم والمعنى؛ والحال أن التنمية حراك في الإطار الثقافي والاقتصادي وهي منتج لكليهما، والطرح التقليدي لكثير من المفاهيم تبين بطلانها منذ أيأم أفلاطون عندما كتب على باب مدرسته الفلسفية “من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا” فما بالك بعصر الفضاء التخيلي وقد حطم كل التعريفات السابقة والحدود المعلومة للإنتاج الفكري البشري وصاغ قوالبه الجديدة. خلاصة القول إن المنتج الابداعي إن لم يكن اقتصاداً يعاش فلا يدخل علينا، وهو مشروع أعمل عليه، آمل له أن ينجز سريعاً، حول المنتج الثقافي وعلاقته بالاقتصاد فيما يسمى بالاقتصاد الابداعي.
ما يصنع الفرق
? عاصرت التطور السريع الذي شهدته الدولة وما رافقه من تبدلات مجتمعية، هل تغيرت انشغالات المثقف اليوم عن تلك التي شهدتها فترة الثمانينات والتسعينات من العام المنصرم؟ وما الفرق؟
? مصادر التكوين لكل من الجيلين هي ما يصنع الاختلاف، فذاك الجيل رغم التبدلات التي شهدها وعاصرها فإن المؤثرات التي كانت تفعل في ثقافته وإبداعه ظلت مؤثرات تقليدية ترتبط بكتاب وتواصل شخصي بين المبدعين والمؤثر والمتأثر. لذا فهو يتسم بطبيعة تلك المرحلة وسماتها من التأني والبطء والتقليدية والرصانة في التعامل مع معطيات الواقع وتشكيل العقل، لكنه في الوقت ذاته يفتقد إلى المدى الواسع المتاح للجيل الحديث. فما صنعته الوسائل الإعلامية الحديثة غيَّر في كمّ وشكل ونوع التأثر والتأثير، وأعطى له مدى كبيراً وفر له غزارة في المنتج الثقافي، ونوعاً جديداً من التدفق المعلوماتي المحمول على وسائط وأوعية ثقافية متجددة وبآليات ووتائر متسارعة بشكل غير مسبوق، وهذا ما يشغل البال بسؤال الهوية في ظل حركة العولمة التي تحتاج فهماً دقيقاً للمعطيات الثقافية التي تتشكل في المجتمع في مثلث أضلاعه هي: أولاً: التراث الثقافي المادي، وثانياً التراث الثقافي غير المادي، وثالثاً: التنوع الثقافي واستيعاب الشكل الابداعي في ظل هذه المتغيرات.
نفَس المثقف.. قصير
? يدور الحديث باستمرار عن هامشية دور المثقف العربي وعزلته وضآلة تأثيره في الجمهور، ما هي طبيعة الدور المطلوب من المثقف العربي حالياً؟ ألا يتحمل المثقف نفسه جزءاً من هذه العزلة والهامشية؟
? هذه واحدة من الإشكاليات الحقيقية التي ينبغي أن تؤرق المثقفين العرب وترفع منسوب قلقهم لكي يعكفوا على تدارسها وتحليلها للوقوف على أسبابها وتداعياتها. بالطبع ثمة جذور تاريخية تضرب عميقاً في تربة العلاقة الشائكة بين المثقف والمجتمع تكرّست عبر سنوات طويلة، وثمة أسباب ذات علاقة بتكوين المثقف نفسه ووعيه ونظرته إلى دوره ودور الفكر في حياة المجتمعات، لكن هذا لا يمنع من القول إن المثقف العربي مطالب باستمرار بالحضور والإبداع والتغيير والنَّفَس الطويل، والحقيقة أن هذا لم يُعهد في الفرد العربي العادي فما بالك بمزاج المبدع المثقف؟
والمثقف مطالب بمواكبة دور حضاري متصوَّر مع أن طبيعة هذا الدور تغيب في الغالب عن تصور المثقف لا سيما المبدع، الذي غالباً ما ينحصر دوره في شكل يغيب عنه موضوعه أو مشروعه، وفي حال تواجدت الرؤية غاب التواصل مع المتلقي إلا في حدود المنتج الثقافي، فكم نسخة يطبع الروائي فضلاً عن الكتاب ذي الطابع الفكري أو العلمي؟ وكم عدد الذين يأتون إلى معرض الفنان التشكيلي؟ وكم عدد المهتمين بالمسرح؟ هذه مؤشرات لا ينبغي القفز عليها عند الحديث عن هامشية المثقف أو فاعليته؛ فالمثقف في نهاية المطاف ليس نبتاً مُنبتّاً أو شيطانياً يحيا وحده في برّيته الخاصة، بل كائن مجتمعي يحيا في محيط ثقافي يتأثر به ويعطي وينتج ويغير بقدر ما يتوفر له من هوامش للإبداع. وإذا ما تذكرنا حال القراءة والثقافة في العالم العربي إجمالاً يمكن فهم لماذا يغيب المثقف العربي اختيارياً عن أحدات مجتمعه، ثم علينا ألا ننسى أن المثقف العربي لا يعيش من صنعة الثقافة ولا يحترفها؛ فهو مطالب بملاحقة قوته وقوت عياله والعيال كما نعلم مجبنة مبخلة، فضلاً عن مسألة في غاية الأهمية وهي أن المثقف العربي بحكم طبعه لا يصنع الحدث، فقط يتأثر به.
? وهل ثمة خصوصية لمثقفي الإمارات؟
? الإماراتي لعله أحسن حظاً من حيث المكابدة لتوفير شروط الحياة اليومية... لكنه أقلُّ نفَساً.
تراثنا.. هويّتنا
? العالم يتغير والإمارات من أكثر الدول المتأثرة بالتغيرات العلمية والتكنولوجية وحتى الثقافية، في الوقت نفسه ثمة عودة إلى الحديث عن قضية الهوية والخصوصية، بعضهم يرى أن الحديث عن هويات محلية هو نوع من العودة إلى الوراء والتنكب عن طريق العصر؟ بعضهم يرى أن مشكلة الحداثة العربية أنها سبقت الحداثة العلمية أي بعكس ما حصل في الغرب تماماً، كيف تنظر أنت إلى إلى المسألة؟
? في كثير من الدول، إذا قسنا مقدار الأمية والأمية الإلكترونية والاقتصادية المدقعة، سنجد أن هذه العوامل تضافرت لخلق فجوة على درجة كبيرة من التنامي والاتساع المضطرد، وتؤثر بذلك على التنمية، ولعل الإمارات لا تعد من تلك الدول التي تعاني من إشكالات كهذه ولكن العولمة المتصلة بالانفتاح التقني خلقت إشكالات أخرى، متصلة بالثقافة الاستهلاكية والتنوع الوارد نتيجة الضرورات الاقتصادية والمعرفية مع اعتبارات الهوية. فالأسرة والمدرسة والجامعة ومتطلبات الوظيفة تفرز تغريباً يوجد تحدياً لسؤال الهوية. لذا فهو هاجس على الدوام عند المثقف والمبدع ويتفقون جميعاً على فكرة واحدة تجاه الهوية مفادها أن ليس فيها ما يشير إلى أنها سبب للتخلف أو العودة إلى الوراء. هذه واحدة من خصوصيات التجربة الإماراتية التي تزاوج بين التراث والأصالة وتقبل في الوقت نفسه الانفتاح على معطيات التقدم العلمي والمعرفي والاتصالي والتقني، والفضل بعد الله للشيخ زايد “رحمه الله” الذي رسخ في أذهان المجتمع والفرد سواء بسواء أن التراث/ الهوية جزء من حراك التنمية، وهو من صلب وطبيعة المجتمع، لذا فهو مما يُسعى إليه بداهة لتحافظ على هويتك. وهنا، تبدو فرنسا مثالاً جيداً لمثل هذه المعادلة، ففرنسا لديها حساسية مفرطة تجاه الهوية ومع ذلك هي مرتع لفكر الحداثة الجديدة في الغرب وهذا أمر من السهل فهمه عند طرح سؤال الحداثة على اعتبار أنها منهج في طرح فكر جديد لا يتعارض مع الهوية بقدر ما يضيف أشكالا ومضامين جديدة، وهذا ـ للأسف ـ ما يغيب على كثير منا بل يحضر نقيضه تماماً حيث تفهم الحداثة على أنها معاكس لكل قائم. في الغرب لا التجارب ولا المراحل التي مرّ بها الأدب والفن أو حتى التجريب العلمي حرقت مراحل الحداثة ولا النقد التي تشكل عنصراً أساساً في نموها، ليس فقط عند المثقف ولا عند المتلقي بل تبلورت ونضجت كجزء من حركة الثقافة في العالم. وثمة مثل واضح لدينا نحن في الإمارات يتمثل في تجربة الفنان التشكيلي حسن شريف الذي كانت له تجارب جريئة في مرحلة الثمانينات قلّ من كان يتواصل معها أو يستوعبها في حين أنها كانت نموذجاً سابقاً لزمنه، ويمكننا الآن أن ندرك هذا التمايز الذي كان عليه، وذاك تماماً ما يفسر كثيرا من تعثر بعض الطروحات التنموية سواء في مجال الثقافة والإبداع؛ فالنقد ضرورة قد تغيب في الثقافة، أو حتى في المجال التنموي العام عندما يغيب التشخيص والمؤشرات وهو المعادل الموضوعي للنقد في الأدب.
الحوار مع الشرق
? العلاقة بين الأنا والآخر ما تزال تحظى بنصيب وافر من الخطاب الثقافي العربي: حوار الحضارات أم صراع الحضارات، الانفتاح أم الانغلاق، والعرب قسمين: عرب مع العولمة وعرب ضد العولمة، عرب مع الحداثة وعرب ضد الحداثة... إلخ؟ كيف تنظر إلى هذه العلاقة الشائكة بين الأنا والآخر خاصة وأن صور الآخر تتعدد وتتنوع؟ ولماذا برأيك جرى تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الغرب وتنصيبهم عدواً جديداً بعد انهيار المعسكر الشيوعي؟
? الآخر في المجتمع العربي كان حاضراً على الدوام سواء باعتبار موقع الوطن العربي الذي ينتصف ويربط بين العالمين الحديث والقديم، فهو يتواصل سواء كان متفاعلاً مع مكونات موقعه الثقافي والجغرافي أو التاريخي القديم، أو المعاصر كرد فعل لواقع كونه متلقٍ للأفكار أو مغيب بفعل الاستعمار وكمستهلك للأمرين المادي والمعرفي معاً. إذن، من البدهي حضوره في الخطاب لكننا حتى الآن لم نعرف كيف يلزم أن نتخاطب ومن أي موقع أهو موقع الندّ أم موقع المتلقي؟. بل إننا ما نزال نعتقد أن هذا الحوار يجب أن يذهب في اتجاه الغرب فقط، بينما في الشرق من يؤمن بنا أكثر على الأقل من باب المصالح ومن باب التواصل التاريخي لكنه لا يزال يغيب عن بوصلتنا. ثمة أسئلة كثيرة تثيرها مسألة العلاقة مع الآخر/ الغرب أهمها: ماذا نريد من هذا الحوار؟
نحن نقدم الإسلام مرة ونؤخره مرات، والمشكلة ليست في الإسلام بل فينا نحن. الإسلام ليس بضعيف لا منهجاً ولا فكراً، وإنما الضعف هو في خشيتنا عليه وتفسيراتنا لنصوصه، لذا فإن الإسلام في الغالب يُؤتى من المسلمين أنفسهم، إما في ما يقدمونه من تصورات عن الآخر أو في ما يعبرون به عن حياتهم ونظمهم وبالتالي تأويلاتهم لها، ثم بعد ذلك بالتصدي لقضايا حساسة وشائكة من غير أصحاب الاختصاص وخارج الإجماع العام وبعيداً عن رواسخ المذاهب، فالقول بالفهم والتأويل الشخصي كوّن الآراء المتطرفة من الجانبين، وإلا فالإسلام دين ينتشر عالمياً ليس بفعل أهله فحسب بل بفعل غيرهم أيضاً، فلا يمكن أن نقول عن تجارب الاستشراق كلها بأنها ضد الإسلام والمسلمين، ولا عن حركة الترجمة التي سادت أوروبا في عصور النهضة وحديثاً بأنها كانت جميعها بقصد محاربة الإسلام. وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً فإن رحلة العولمة (ثقافياً) لم تكن رحلة وليدة الأربعينات من القرن العشرين عند خروج اتفاقات البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة الحرة واتفاقات التعرفة الجمركية، وما أحاط بها من اتفاقات معنية فيما بعد من منظمات الأمم المتحدة المتعلقة بالسكان والصحة والطفل والمرأة والثقافة، كحقوق المرأة والطفل والتنوع الثقافي والتراث المادي.. بل هي تراكمية جاءت من التواصل الأممي الثقافي سواء من الهجرة أو الأعراق المحلية المختلفة. إن عشر سكان العالم يوجد في أماكن غير الأماكن التي ولد فيها أبويه عدا عمن يتكلم لغة غير لغته الأم، وما يتبع ذلك من ثنائية الثقافة والتواصل، ومن ثم في إطار فضاء جديد للتواصل الإعلامي والإلكتروني، وهذا الحراك بالمناسبة هو في النهاية حراك حداثي، يحمل في طياته موافقاته ومعارضاته، فسقوط أيديولوجيات ليست مسألة معزولة عن الحراك العام، لكن المرجع هو القيم الضابطة التي بنيت عليها الأصول الإسلامية أو الإسلامية العربية، وهي قادرة على استيعاب الآخر عندما يكون لها مشروعها المحلي كهوية ومشروعها مع الآخر كحوار.
? في ظل الثقافة الاستهلاكية والوسائط الثقافية الجديدة التي أفرزها تقدم الاتصالات والتقنية خاصة الإنترنت، كيف تتشكل ثقافة المستقبل وما هي ملامحها؟
? الإنترنت والمنتج المعلوماتي يفرزان ثقافة جديدة بمدخلاتها ومخرجاتها، وهي ما يمكن أن نطلق عليه العولمة الجديدة فلا صدام بين الحضارات وهذا دليله، وهو اقرب إلى التواصل العالمي بغض النظر عن من هو المبادر فيه ومن هو الذي يضع قواعد اللعبة، ومثل ما للمنتِج قواعده فللمستهلك أثره وقواعده، لكننا لسنا نشبه الذين يريدون تحقيق أمر ما، فنحن لا نقرأ ولا نحسب ونتأثر وهذا مناقض لطبيعة الأشياء فالذي يتأثر يحسب للأمور.