القاهرة - جميل حسن:
رحل المطرب الشعبي الكبير محمد رشدي عن دنيانا أمس عن عمر يناهز 76 عاما بعد صراع طويل مع مرض الفشل الكلوي ودخوله في غيبوبة منذ ثلاثة أسابيع حيث كان يعالج في مستشفى السلام الدولي على نفقة الدولة· وسيشيع جثمانه بعد صلاة ظهر اليوم 'الاربعاء' من مسجد الحامدية الشاذلية بحي المهندسين·· ذهبنا إلى الغيطان وفتشنا تحت الشجر عن وهيبة وذهبنا إلى الإسكندرية بحثا عن القمر الإسكندراني·· واخذتنا أقدامنا إلى شاطيء البحر وقرى الصيادين لنسأل عن عدوية ونجاة وعرباوي ثم امتدت الرحلة إلى المغارة الشهيرة في الشرقية لعلنا نجد أدهم الشرقاوي هناك·· وكانت الإجابة طوال الرحلة واحدة·· اجابة حزينة·· هي دامت لمين؟·· كل الذين تسألون عنهم يسيرون الآن في جنازة ابيهم الذي أوجدهم من العدم ورحل·· كلهم الآن يجلسون فوق قبر الفنان الشعبي الأصيل محمد رشدي·
ذلك الفنان الذي كتب شهادة ميلاد جديدة وخالدة وباقية إلى ما شاء الله للغناء الشعبي المصري·· ونعى نفسه قبل ان يموت بألبوم 'دامت لمين' الذي قلب الدنيا رأسا على عقب ونجح نجاحا مدويا جعل محمد رشدي على القمة وسط أمواج متلاطمة من غناء الشباب·· ذلك العجوز الذي تجاوز الخامسة والسبعين استطاع وهو يجود بأنفاسه الأخيرة في ختام معركة طاحنة مع مرض الفشل الكلوي ان ينجح بامتياز ويهزم آلامه ويهزم كل الشباب من المطربين ليصبح المطرب الأول لعام ··2004 ولانه كان دائم الدعاء في صلاته فقد صمم بألا يموت تافها أو على الهامش أو بعيدا عن الأضواء·· وكان له ما أراد فقد مات ملء السمع والبصر وهو يشدو بصوت قوي اشتاق إليه الجمهور كثيرا: دامت لمين؟
لقد كان محمد رشدي صوفيا لانه مولود في احضان مقام سيدي إبراهيم الدسوقي بمدينة دسوق التابعة لمحافظة كفر الشيخ بدلتا مصر·· وكان مولده في العشرين من يوليو عام ··1930 وعرف طريقه إلى الغناء وهو في الثانية عشرة من عمره حيث كان يغني في مولد الدسوقي وفي حفلات الأعيان ببلدته ويتقاضى أجرا لا يتعدى القروش القليلة·· وكان يؤذن لكل الصلوات بلا أجر في مسجد الدسوقي حبا وولاء للقطب الكبير·
ولم تكن في حياة محمد رشدي أسرار يخفيها أو يخجل منها·· وكان يفخر برحلة العذاب والمعاناة والفقر التي مشاها على أشواك ومسامير كثيرة·· فقد نشأ في أسرة متواضعة لأب يعمل طوابا أي في صناعة الطوب وأم فلاحة بسيطة عالمها كله بيتها ومقام سيدي الدسوقي وشقيقتين هما انشراح التي رحلت منذ سنوات وصبرية واخوة لابيه الذي تزوج غير أمه وكانت الأم المعدمة ترسل ابنها رشدي إلى مقام سيدي ابراهيم الدسوقي ليقدم له الشكوى من الأب الذي تزوج اخرى وترك أسرته الأولى بلا عائل وخرج رشدي من المدرسة الابتدائية ولم يكمل دراسته لضيق الحال وراح ينفق على أمه وأختيه من قروشه القليلة التي يتقاضاها من غنائه في حفلات الاعيان خاصة صديقه فريد زغلول ابن العمدة الذي استعان به ليهتف ويغني في دعايته الانتخابية كمرشح للبرلمان·
أول الطريق
وقاد رشدي مظاهرة الدعاية بأغنية تقولك صوت الضمير لما بيهتف·· يسمع له الناس·· مادام يكون حب الواجب والحكم أساس·· والاختيار قوة واحساس·· ومين مجاهد عنده حماس·· غيرك يا فريد·· وكانت الأغنية من تأليف منجد القرية ومن تلحين رشدي·· وكانت أول أغنية جماهيرية أو شعبية حقيقية لمحمد رشدي خاصة بعد ان أدت إلى فوز فريد زغلول في الانتخابات· وبهذه الأغنية وضع رشدي محمد الراجحي قدمه على أول الطريق·· وبالمناسبة فان الاسم الحقيقي للراحل الكبير هو رشدي واسم أبيه محمد·· لكن الاسم الفني جعله محمد رشدي·· وكان لقاء المجد والشهرة في بيت فريد زغلول الذي أقام حفلا بمناسبة فوزه في الانتخابات دعا إليه كوكب الشرق أم كلثوم·· وقال فريد زغلول لسيدة الغناء العربي: أريد ان تسمعي صوت الولد رشدي لأنه صوت جميل جدا·· ولما سمعته أم كلثوم قالت له: صوتك فعلا جميل يا ولد·· اذهب فورا إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى·· وكانت شهادة أم كلثوم له الجذوة التي اشعلته حماسا فهرول إلى القاهرة ليبدأ من هناك رحلة معاناة أخرى حتى وصل إلى القمة دامي القدمين· وفي القاهرة لم يكن رشدي يعرف احدا سوى فراش بلدياته يدعى أحمد المنشاوي أقام معه في حجرة على السطوح بحارة المغربي في باب الشعرية·· وكان يتلقى من أبيه ثلاثة جنيهات شهريا يأكل ويشرب وينام ويذاكر ويدرس منها·
وتخرج رشدي في المعهد والتقى بالاذاعي الراحل علي فايق زغلول الذي نصحه بأن يغني في الإذاعة وجعله يكتب طلبا ليتقدم إلى لجنة استماع كانت تضم محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي·· وبالمصادفة كان الراحل عبدالحليم حافظ متقدما معه في نفس اللجنة ونجح الاثنان وتم اعتمادهما معا في الإذاعة· وفوجيء رشدي يوما بأبيه يزوره في حجرته المتواضعة·· وبكي الأب كثيرا عندما لمس معاناة أبنه·· ورأى ان رشدي يعاني بلا طائل وحاول اقناعه بالعودة معه إلى القرية ليساعده في عمله بصناعة الطوب·· لكن رشدي أبى وأكد لابيه انه سينطلق من خلال الإذاعة لكن الأب قال له: لن أ صدقك حتى تزورني في القرية راكبا سيارتك·· وذاق رشدي الأمرين حتى أدخر 650 جنيها اشترى بها سيارة وذهب لزيارة قريته· وظل رشدي حزينا حتى الموت لان أمه رحلت قبل ان تسمعه في الإذاعة وتراه في التليفزيون لكن اباه استمتع بشهرته وشاهد نجوميته· وكانت النقلة الأهم في مشوار محمد رشدي هي العمل الدرامي الإذاعي الضخم أدهم الشرقاوي الذي غنى فيه رشدي اثنين وتسعين موالا وكانت الشوارع تخلو تماما من المارة عند إذاعة هذا المسلسل الذي جعل رشدي نجم النجوم·
منافسة مع العندليب
وتحركت الغيرة الفنية المشروعة في قلب العندليب الراحل عبدالحليم حافظ فقرر منافسة رشدي من خلال السينما وغنى مواويل فيلم سينمائي بعنوان أدهم الشرقاوي لكن الفيلم فشل فشلا ذريعا وساهم في تألق رشدي لأن المقارنة على صفحات الصحف كانت لصالحه· واشتعلت المنافسة الفنية بين الصديقين اللدودين عبدالحليم ورشدي عندما دوى اسم محمد رشدي في كل الأرجاء بلونه الشعبي المميز وحققت اغنياته من ألحان الصديق المشترك للاثنين بليغ حمدي نجاحا فائقا وأهمها 'عدوية' و'وهيبة' و'عرباوي' و'حسن المغنواتي'·· وخطف عبدالحيم حافظ بليغ حمدي من رشدي واستأثر بألحانه واقتحم بها اللون الشعبي ملعب رشدي الأهم وغنى عبدالحليم اغنيات ناجحة مثل 'على حسب وداد قلبي' و'انا كل ما أقول التوبة' و'سواح' و'الهوى هوايا' و'جانا الهوى' و'الويل الويل' والاخيرة من تلحين محمد عبدالوهاب·· واعترف رشدي مررا بأن عبدالحليم كان منافسا عنيدا له وأن اغنية 'على حسب وداد قلبي' ضربته في مقتل· لكن محمد رشدي كان دائما يقول: كنا أنا وعبدالحليم صديقين حميمين على المستوى الانساني وكنا نتنافس بشرف لصالح الفن والجماهير ولم تحدث بيننا معارك وكنا نرى ان ما يحدث بيننا امر طبيعي·· فقد خطف مني عبدالحليم اغنيتي 'الهوى هوايا وجانا الهوى' ولم اغضب وخطفت انا من شادية اغنية 'يا قمر يا اسكندراني' ولم تغضب·· وعرض عليّ بليغ حمدي اغنية 'بهية' فرفضتها لأنني لاحظت ان كل اغنياتي تحمل اسماء اشخاص واعطيت الاغنية لمحمد العزبي وكانت سبب شهرته وذيوعه· وقد كان محمد رشدي يرى ان ادهم الشرقاوي مفتاح نجاحه وتألقه لذلك سمى بيته فيلا ادهم وسمى احد ابنائه ادهم وهو أخ لكل من طارق وثناء ورشدي·· والاخريان من الزوجة الاولى التي رحلت منذ سنوات طويلة وتزوج رشدي بعدها ام ابنائه ادهم وطارق وثناء وكان رشدي يقول دائما عنها: لقد تحملت العذاب معي وعرضت عليها الانفصال عندما ظللت محبوسا في الجبس لمدة عامين لكنها كانت تقول: انا معك حتى ولو تسولنا·· وعندما مرت محنة المرض ظل رشدي يعطيها كل ما يربحه لتنفق هي عليه وعلى البيت·
مع الأبنودي
وظل محمد رشدي حتى لحظاته الاخيرة في الدنيا يقول ان الشاعر عبدالرحمن الابنودي هو أعز اصدقائه وان كل اغنياته التي أدت الى نجوميته من اشعار الابنودي·· ولم يكن محمد رشدي يخرج من بيته إلا لزيارة الابنودي أو زيارة الشيخ صالح خليل احد مشايخ الصوفية بالشرقية·· كما لم يكن يستقبل في بيته من الفنانين والادباء غير الابنودي· براويز فرقة القباقيب عندما كان رشدي صبيا في قريته بدسوق كون مع عدد من اصدقائه فرقة سموها فرقة القباقيب الموسيقية وكانت أداة الفرق الوحيدة هي الدق بالقباقيب وكان رشدي هو مطرب الفرقة الذي يختار اصعب الاغنيات لأدائها مثل رق الحبيب وهلت ليالي القمر لأم كلثوم·