يسمع الكل عن الثورة التكنولوجية التي نعرفها اليوم، والتي يصطلح عليها عادة بالتكنولوجيا الفائقة High Technology. إنها عبارة عن حالة جد متطورة من التقدم التكنولوجي، والتي تتجلى في العديد من المجالات، مثل المعلوميات والذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية، وعالم الصناعات بشكل عام كالسيارات والطائرات والروبوتات وغيرها. منذ ملحمة الثورة الصناعية والإنسان يحاول أن يدفع بابتكاراته واكتشافاته إلى الأمام. لقد نتج عن هذا التقدم العديد من المخترعات، جعلتنا بالفعل نحسن بشكل كبير من ظروف حياتنا من جميع النواحي، وما مجتمع الرفاه الذي نعيشه حالياً إلا أكبر ذليل على ذلك. غير أن كل هذا لم يكن من دون ثمن، فالتطورات المهولة في المجال العسكري، والاختلالات الكبيرة التي تركها هذا التطور على البنية الاجتماعية، وبالخصوص الهجرة الواسعة التي عرفها القرن العشرون من الأرياف نحو المدن. إضافة إلى التأثيرات الكارثية على المجال البيئي. كل هذا جعل العديد من المفكرين يعيدون طرح السؤال، حول ملاءمة التقدم التكنولوجي للغايات الإنسانية وللوضع الحضاري العام. في هذا السياق، انتقد مارتن هيدغر وجاك إليلول وجان فروستييه وغيرهم ما يمكن أن نسميه بأسطورة التقدم التقني. ركز هيدغر مثلاً على التقنية باعتبارها المهددة للمصير العام للوجود البشري. أما جاك إلول، فقد حلل التقنية باعتبارها قوة تمتلك استقلاليتها عن الإنسان، ما يجعل هذا الأخير خاضعاً لسلطتها. في حين ميز جان فوراستييه في كتابه: «الأمل الكبير للقرن العشرين» (1 ص 220) بين المشاكل التقليدية التي كانت بسبب ضعف الإنتاجية، والمشاكل الحالية المتمثلة في الإفراط في الإنتاج بسبب التقدم التقني. لقد باتت هذه الانتقادات كلاسيكية في مجال كشف الاختلالات التي قاد إليها التقدم التقني. واليوم لدينا اتجاه جديد يتزايد مناصروه بشكل متصاعد، يدعو إلى تكوين بديل للتكنولوجيا الفائقة، يطلق عليه التكنولوجيا المنخفضة low technology 2 كما يحمل عنوان كتاب للفرنسي فليب بيهويكس الذي يعود له الفضل في إشهار هذا المصطلح، مقدماً إياه نموذجاً مكتملاً للتنمية المستدامة.
إنقاذ الجنس البشري
وهكذا نجد أنفسنا من جديد أمام مفترق الطرق، هل علينا أن نراهن على التكنولوجيا الفائقة من أجل إنقاذ الجنس البشري وتحسين أوضاعه، أم علينا أن نراهن عكس ذلك على التكنولوجيا المنخفضة كي نقلل من الأضرار التي راكمها التقدم التقني؟ ثم هل هذه التكنولوجيا المنخفضة قادرة بالفعل أن تشكل بديلاً حقيقياً لمشاكل التصنيع والأتمتة؟
فيلب بيهيويكس Philippe bihouix هو مهندس فرنسي ومتخصص في القضايا البيئية، عضو في معهد مومينتوم الذي يرأسه الوزير السابق إيف كوشي، يمكن اعتباره حالياً أحد أبرز فلاسفة التكنولوجيا الجدد. نشر سنة 2010 كتاباً مشتركاً عنوانه: أي مستقبل للمعادن. وهو كما يشير العنوان يدق ناقوس الخطر، حول النذرة التي سنواجهها في المستقبل بخصوص المعادن. وفي سنة 2014 نشر كتابه الأشهر: «عصر التكنولوجيا المنخفضة، نحو حضارة مستدامة تقنياً». يطرح بيهويكس في هذا الكتاب بديلاً للتكنولوجيا الفائقة التي يعتبرها غير مستدامة، وقائمة على استنزاف مهول للموارد الأولية، وعلى رأسها المعادن. والمقصود هنا بالتكنولوجيا المنخفضة نوع من التكنولوجيا البسيطة التي لا تتطلب طاقة كبيرة من أجل تشغيلها. كما أن المواد التي تدخل في تصنيعها مستمدة مباشرة من البيئة المحلية: طين، أعواد خشب، قطع معدنية معاد تدويرها، وبالتالي يسهل تصليحها في حالة تعطلها. بطريقة أخرى يمكن القول بأننا أمام أدوات تقليدية، أكثر مما نحن أمام تقنية بالمعنى الكامل للكلمة. فالتقنية المنخفضة تعود لإحياء الأدوات العتيقة البسيطة التي تم اعتمادها في الماضي من قبل أجدادنا، والتي يعتقد أنها لا تزال تتضمن إمكانات هائلة، يمكن أن تجنبنا الكثير من السلبيات التي ميزت التكنولوجيا المتطورة.
باختصار نحن نكون في مجال التكنولوجيا المنخفضة، عندما نستعمل عدة معينة تكون أكثر قابلية لإعادة التدوير، وذات استهلاك منخفض من الطاقة، كما أن تكلفتها من الكربون منعدمة أو شبه ذلك. والأفضل أن تكون مصنعة يدوياً من قبيل: اصنعها بنفسك do it your self مثل فرن يعمل بالطاقة الشمسية، منازل عازلة للحرارة، أكياس من القش أو التوب بدل الأكياس البلاستيكية.
إن المشاكل التي نعيشها حالياً والمتمثلة في انهيار الأنظمة البيئية والحيوية، والتغيرات المناخية، والاحتباس الحراري والذوبان المتصاعد للجليد وغيرها من المشاكل. كلها باتت مألوفة اليوم في وسائل الإعلام. غير أن الرأي العام وإنْ كان يستشعر هذه الأخطار، فالناس تواصل حياتها بشكل عادي، محافظة على نفس السلوك الاستهلاكي الذي تقدمه لها حضارة الوفرة. إضافة إلى هذا فالخطابات الرسمية حول الأزمة البيئية، تروج لبديل تطلق عليه «التكنولوجيا الخضراء» والذي تعتبره كافياً لوضع حد للانهيار الذي نعيشه.
إعادة تدوير المواد
إن هذا الحل الذي يقوم على إعادة تدوير المواد يعتبره بيهويكس غير ناجع. ورغم أن الكاتب ليس ضد مبدأ قابلية إعادة تدوير المواد، إلا أنه يرى أننا لا يمكن أن نطرح هذا المبدأ كحل لمعضلة البيئة التي نعيشها، فالكثير من المواد لا يمكن إعادة تدويرها إلى ما لانهاية. في نظره كل هذه التقنيات الجديدة التي تسمي نفسها أحياناً بالثورة التكنولوجية الرابعة {المدن الذكية والسيارات الكهربائية والزراعة المعتمدة على التكنولوجيا الفائقة} تبقى غير قادرة على إنقاذ الكوكب. نحن بالعكس نواصل ضغطنا على الموارد الأولية كي لا نتخلى عن حياة الوفرة والاستهلاك التي اعتدنا عليها.
هكذا فأطروحة بيهويكس تقوم على فكرة أساسية، وهي أنه بدلاً من الدفع بالتطورات التكنولوجية إلى الأمام نحو المزيد مما هو فائق. يطالب عكس ذلك بكبح جماح التقدم والعودة قليلاً إلى الوراء، من أجل اعتماد تكنولوجيا أقل تطوراً يطلق عليها التكنولوجيا المنخفضة. إن هذا لا يعني بتاتاً في نظره أن تتخلى البشرية حالياً عن التقنية كي تعود للعيش في الماضي. لا يمكن استبدال السيارات بعربات الخيول، ولا المصباح الكهربائي بالشمعة. إن كل ما يطالب به بيهويكس هو أن ندير دفة الحضارة نحو وجهة جديدة: «في أسرع وقت ممكن، إلى مجتمع قائم على تقنيات منخفضة، ربما أكثر قسوة وأساسية، وربما أقل قوة، لكنها أكثر كفاءة في استخدام الموارد الأولية، ويمكن التحكم فيها محلياً» (ص 5)، ويؤكد الكاتب أنه لا يوجد اليوم أي منتج يمكن القول بأنه مصمم لاحترام البيئة. فلا المنازل والبنايات تقوم على استهلاك أقل للطاقة. ولا أيضاً بقية المنشآت من مطارات وطرق سريعة وموانئ وغيرها، يمكن تصنيفها باعتبارها صديقة للبيئة. بل حتى الثورة الرقمية التي تقدم نفسها باعتبارها تجري في العالم الافتراضي. يرى الكاتب أن هذا مجرد هراء، فالأسلاك الممتدة تحت البحار والمحيطات، وأجهزة الوحدات المركزية، والحواسيب ورقائق السيلكون وغيرها، كلها جميعاً أشياء واقعية محسوسة، وبالتالي فهي بدورها كبقية الصناعات تترك أثرها من التلوث على البيئة.
إضافة إلى ما سبق، تزيد الاختلالات الاجتماعية من تفاقم المشاكل المتولدة عن حضارة الاستهلاك. حوالي 20% من سكان العالم يستحوذون على 80% من خيرات الكرة الأرضية. كما أن الصناعات الاستهلاكية تشن حرباً لا هوادة فيها على الموارد الأولية، من معادن وخشب ومزروعات وغيرها، مراهنة على المزيد من الاختراع والابتكار. لقد أصبح العالم كما يقول شبيه بـ «عصارة إكسبيرسو ضخمة»(ص 7).
فائقة أم منخفضة؟
أية تكنولوجيا إذن يمكن أن تكون هي الأنسب للكرة الأرضية ولمستقبل الإنسان: الفائقة أم المنخفضة؟ ثم هل يمكن لتكنولوجيا الماضي أن تنقد الكوارث التي تعرفها الحضارة المعاصرة؟
رغم التوصيفات المخيفة التي يقدمها بهيويكس، حول الوضع الذي توجد عليه المعادن والموارد والأولية والأزمة البيئية العامة، إلا أنه في نظره هناك إمكانية لتأسيس تنمية مستدامة، بشرط تغيير الأنشطة البشرية بالشكل الذي نحترم فيه محدودية الكوكب الذي نعيش عليه. إنه يدعو إلى الضغط على المكابح، وعدم الانسياق مع النمط الاستهلاكي الجامح الذي نعيشه. وإذن ما يدافع عنه الكاتب، هو أنه بدلاً من التعويل على الابتكار التكنولوجي الفائق كمخرج من الأزمة، يجب الانعطاف نحو التكنولوجيا المنخفضة، وهي نوع من التقنية التي لا ترتبط حصراً بالعلم بل بالخبرة والدراية le savoir faire التي راكمها الإنسان عبر الآلاف من السنين، من خلال تجربة الحياة وتعامله مع الطبيعة.
ولكن في ظل الثورة الرقمية والإلكترونية التي نعيشها، هل من المعقول العودة إلى الوراء بغرض اعتماد أدوات بسيطة؟ هل حضارة المستقبل ستكون منخفضة أم عالية التقنية؟ من المفيد جداً أن نسائل التقنية، وأن نفكر في تأسيس علاقة جديدة معها كما كان يدعو إلى ذلك هيدغر: التقنية كانكشاف يسمح لنا بالتفكير في وجودنا ومصيرنا. كما أنه من الأكيد أيضاً أن العديد من المشاكل التي يعيشها الإنسان المعاصر، لا تتوقف معالجتها على إيجاد «حلول تقنية» بل هي تتطلب تغييرات جذرية في السلوكات الاستهلاكية وتأسيس رابطة مغايرة مع الطبيعة، غير أن العلاقة النقدية والواعية مع التقنية، لا تعني بتاتاً العودة إلى الوراء. فالتقنية كما أوضح هيدغر تتضمن الكثير من الأخطار، لكنها في الآن ذاته تنطوي على العديد من الوعود 3. نلاحظ أن بيهيوكس يرفض بشكل واضح الطرح الذي يرى أن التكنولوجيا بإمكانها أن تحسن من الوضع البشري، وأن تدفع النقص دائماً. في اعتقاده الاكتفاء بالرصانة وحده هو الحل، علينا بالتقشف التكنولوجي. مع ذلك فهو لا يرفض الاعتراف بأهمية التكنولوجيا الفائقة، ولكنه يؤكد أهمية التكنولوجيا المنخفضة، على الأقل في الوضعية الراهنة. فإذا كنا نحتاج في نظره إلى التكنولوجيا الفائقة فذلك ليس اليوم. وإذن فالأمر لا يتعلق باختيار حضاري مبدئي، ولكن فقط ببرنامج استعجالي لإنقاذ واستصلاح الأوضاع البيئية التي آلت إليها الحضارة الصناعية. يعترف بيهويكس بصعوبة العودة إلى الوراء، بل واستحالة ذلك لهذا السبب، فكل ما يطلبه هو التخفيض ما أمكن من التأثير على البيئة.
تبدو أطروحة بيهويكس حول التكنولوجيا المنخفضة مثيرة للاهتمام، كما يمكنها بالتأكيد تخفيض الضغط على البيئة. لكنها تظل غير ناجحة بتاتاً فيما يتعلق بالمشاريع العلمية الكبرى كغزو الفضاء وتعمير الكواكب، أو في المجال الطبي أو المعلوماتي. إذ سيكون من العبث التوقف عن الابتكار الذي وحده بإمكانه أن يضمن لنا التقدم في هذه المجالات. من المفيد أن لا نفتتن بالتكنولوجيا ولكن في الآن ذاته علينا أن نعلم أنها ستظل قدر الإنسان وحتمية حضارية لا مفر منها.
الهوامش
1 jean fourastie. Le grand espoir du xxe siècle. ED gallimard 1963
2 Philippe Bihouix L›Âge des low tech. Vers une civilisation techniquement soutenable Éditeur: SEUIL 2014
3 موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا. تحرير جان أولسن، إيفان سالنجر، سورن ريس. ترجمة شوقي جلال. الطبعة الأولى 2018. المركز القومي للترجمة. ص 239 مقال تحت عنوان الخطر والوعد هند هيدغر.