لا شك أن الحضارة الحديثة هي أول حضارة في تاريخ البشرية تجعل المساواة في الحقوق والواجبات شرطاً ضرورياً لأجل تطبيق العدالة. لذلك، ليس مصادفة أن يتبوأ مفهوم المساواة مكانة البند رقم واحد ضمن معظم إعلانات حقوق الإنسان، وذلك بجوار مفهوم الحرية. فقد جاء البند الأول من إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان لعام (1889) على النحو التالي: «يولد جميع الناس ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق»، كما جاء البند الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام (1984) على النحو التالي: «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق». خلال العصور الماضية كلها، لم تكن العدالة تعني المساواة بأي حال من الأحوال، بل عكس ذلك، كانت المساواة تعني الحفاظ على «التفاوت الطبيعي» بين البشر، كان مغزى العدالة أن يحتل كل شخص مكانه الطبيعي داخل هرمية لا يجوز انتهاكها، كانت العدالة في العالم القديم تعني احترام التفاوت بين البشر الذي يُعتبر من وجهة نظر معرفية معطى طبيعياً تفرضه قوانين الطبيعة، ويُعتبر من وجهة نظر أخلاقية أمراً عادلاً تفرضه قوانين الأخلاق. أو هكذا كان يُفترض.
يا أشباهي!
كون الاختلاف كان يدل في العالم القديم على التفاوت، هنا يكمن السبب الذي دفع قادة الثورة الفرنسية إلى محاولة استعادة مبدأ المساواة عبر محاولة التأكيد على التشابه بين البشر، ولذلك كانوا يستهلون خطبهم بعبارة، يا أشباهي! (mes semblables).
غير أن محاولة تأسيس المساواة على مبدأ التشابه، ستنتهي في آخر المطاف إلى صعود الشموليات المساواتية، والتي مثلت الستالينية خلال النصف الأول من القرن العشرين حالتها القصوى.
هنا بالضبط يكمن نقد نيتشه للثورة الفرنسية، وخلاصته أن الإفراط في المساواة يقتل إرادة النمو والتفوق، ومن ثم يشل إرادة الحياة. لكن هل يدفعنا النقد النيتشوي للمساواة إلى تركها جملةً وتفصيلاً؟
مطلوب -مرة أخرى- إعمال العقل التركيبي، وعلى سبيل المثال، باستحضار النقد الأفلاطوني للديمقراطية أدركنا في الأخير أن الديمقراطية تحتاج إلى جرعات غير ديمقراطية تحميها من النزعات الشعبوية، كما يحتاج العلم والعقل والتقنية إلى جرعات من الخيال والذوق والجمال تحميهم من النزعات الأداتية، وعلى نفس المنوال تتطلب حماية مبدأ المساواة بعض الجرعات المضادة للمساواة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية. على هذا الأساس من الوعي التركيبي، سمحنا في الآونة الأخيرة بظهور مفاهيم «التمييز الإيجابي»، و«المناصفة»، و«نظام الكوتا»، و«بيداغوجيا الفوارق»، رغم أنها تخل جزئياً بمبدأ المساواة. إننا نسمح بخرق المساواة في بعض التفاصيل، حتى نحافظ عليها في مستوى المبدأ.
لكن، حتى في مستوى المبدأ هناك نقاش دائر اليوم حول جدوى المساواة، حين يتعلق الأمر بحاجة الحضارة ليس إلى أشخاص متساوين كأسنان المشط، بل إلى أشخاص يستطيع بعضهم أن يتفوق على بعضهم الآخر؟ هنا بالذات يكمن جوهر نقد كل من نيتشه وشوبنهاور لمبدأ المساواة، وهو النقد الذي انتهى إلى تحولات جذرية في مفهوم المساواة، نظرياً ثم عملياً.
أربع مراحل
إجمالاً، شهد مفهوم المساواة في العصر الحديث أربع مراحل متتالية:
- المرحلة الأولى، مرحلة المساواة في العقل. وهي المرحلة التي دشنها ديكارت عبر عبارته الشهيرة التي استهل بها كتابه (خطاب المنهج): «إن العقل لهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس». وإن كنا نعتبر هذه المرحلة بمثابة المرحلة التأسيسية لمبدأ المساواة بين البشر كافة، فلأن ليس بالإمكان إثبات المساواة في الحقوق والواجبات، وضمنها الحق في الاختيار وحرية التعبير وحرية الضمير، إذا لم نثبت أولاً وقبل كل شيء، أن الناس جميعهم يمتلكون، من حيث المبدأ، نفس القدرة على التمييز بين الجيد والسيئ، بين النافع والضار، وبين الصالح والفاسد، وأنهم لا يختلفون في تقديراتهم إلا بسبب جهل في المعرفة، أو نقص في المعلومات، أو خطأ في المعطيات، أو جبن في استعمال العقل، أو كسل في ذلك، أو غلبة الحماس أو الانفعالات السلبية في كثير من الأحوال.
- المرحلة الثانية، مرحلة المساواة في الحقوق والواجبات، ويقف خلفها فلاسفة الأنوار، بدءاً من سبينوزا إلى غاية كانط، مروراً بروسو وفولتير ولوك وغيرهم. حيث يكمن المبدأ المؤسس للدولة الحديثة في القول بالمساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق التي لديهم والواجبات التي عليهم. ومن أهم الإنجازات التي لا تزال باقية لهذه المرحلة، والتي يُعتبر الحفاظ عليها تحدياً كبيراً، هناك ثلاثة مكاسب أساسية:
- الديمقراطية التمثيلية، وتقوم بدورها على مبدأين أساسيين، التصويت الفردي، والمساواة بين جميع المواطنين في القيمة الانتخابية لأصواتهم.
- المدرسة العمومية، وتقوم على مبدأ ضمان نفس شروط التعلم بالنسبة لكافة الأطفال، وذلك بصرف النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية.
- الطبقة المتوسطة، وهي القوة الأساسية في بناء دولة المؤسسات والمجتمع المدني، وتتألف أساساً من موظفي الدولة وأطر التعليم والقضاء والصحة والأمن والتجارة ونحو ذلك.
- المرحلة الثالثة، مرحلة المساواة الاجتماعية، والتي تقف خلفها أفكار روسو وهيجل وماركس، وهي مرحلة موسومة بعصر الثورات التي قادتها الحركات اليسارية عبر العالم خلال القرن العشرين، بدءاً من الثورة البولشفية التي انتصرت عام 1917، وانتهاء بحركات مناهضة العولمة الرأسمالية التي بدأت تتشكل عام 1998. ومن أهم الإنجازات الباقية لهذه المرحلة، والتي يعتبر الحفاظ عليها تحدياً كبيراً، هناك ثلاثة مكتسبات أساسية:
- الحركة النقابية باعتبارها قوة تنظيمية قادرة على تأطير العاملين والموظفين.
- المجتمع المدني باعتباره سلطة مضادة وقوة نقدية واقتراحية.
- دولة الرعاية الاجتماعية باعتبارها حاضنة نسيج التضامن الاجتماعي بين مختلف الفئات والطبقات والجهات.
- المرحلة الرابعة، أو الراهنة، هي مرحلة تكافؤ الفرص، وقد قامت على أساس الوعي بأن الحاجة إلى المساواة تستلزم الحاجة إلى نقد المساواة، وليس في الأمر من تعارض. سأقول من باب التنبيه، وحده النقد المتحرر من الحقد يمنحنا القدرة على الاستيعاب، ومن ثم الاحتواء، ومن ثم التجاوز في الأخير. أما النقد القائم على التشفي والكراهية فلن يتيح لنا سوى الصراخ، ثم الوقوف على هامش الحضارة وقارعة التاريخ، كما هي بعض أحوالنا اليوم. على أساس النقد الذاتي البنائي والبناء، بُنيت أسس الحضارة المعاصرة، ويعاد النظر فيها مرة بعد كل مرة، وعند الاقتضاء.
نفس الأمر يحدث بالنسبة لمفهوم المساواة، والذي لم يعد يعني ما كان يعنيه.
داخل حلبات سباق السرعة هناك خط انطلاق واضح المعالم، قد يكون مستوياً بنحو مستقيم، وقد لا يكون كذلك، وذلك تبعاً لهندسة الحلبة، غير أن القصد في كل الأحوال هو ضمان تكافؤ الفرص والذي هو المبدأ الأهم. كما أن الإصرار على المساواة المطلقة إلى درجة إنكار الحق في التفاوت بين المتسابقين أثناء السباق، أو عند لحظة الوصول، لن يحقق العدالة المرجوة، وبعد ذلك لن يقنع أحداً بتنمية مهاراته وقدراته، طالما أن الغلو في النزعة المساواتية سيحرم الجميع من الحق في التفوق، ومن ثم لن يحرص أحد على تنمية قدراته، ولن يسعى أحد إلى تحقيق ذاته، بل سيتكاسل ويتثاقل الجميع، وتغدو المنافسات الرياضية بلا معنى ومن دون جدوى، ثم تنهار في الأخير. على هذا المنوال تنهار الحضارات.
تكافؤ الفرص يعني ضمان المساواة في مستوى خط الانطلاق داخل كل ميادين التعليم والتنشئة والتكوين، وذلك بمراعاة الفروقات الفردية، وضمان حق الأشخاص في التفوق، لاسيما أولئك الذين وُلدوا لكي يتفوقوا في مجال من المجالات، وهذا حق أساسي من حقوق الإنسان. ذلك أن الحق في التفوق هو الذي يمنح لكل فرد حافزاً كافياً لكي يحقق نموه الخاص.
نمو الأفراد معناه نمو الحضارة في الحساب الأخير، وهذا حين نحسبها بنحو صحيح.