مرتْ عشر سنوات على رحيل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، ومنذ غادر عالمنا عام 2015 لا يزال حضوره طاغياً ومتواصلاً من دون انقطاع. كان الأبنودي رجلاً أصيلاً واثقاً.. من جنوب مصر، ظل يتحدث بلهجته الصعيدية طيلة حياته، كتب بها، وباللهجة القاهرية، أعذب القصائد وأروع الأغنيات. ولد عبد الرحمن الأبنودي في محافظة قنا جنوب مصر، وقد أخذ اسم بلدته أبنود، وهو قريب وصديق للشاعر أمل دنقل، حيث درسا معاً في مدرسة قنا الثانوية.
كان الأبنودي صديقاً لنجيب محفوظ وأحمد زويل ومحمد حسنين هيكل والطيب صالح، كما كان صديقاً لعدد كبير من بسطاء الناس، وقد كتب عن عمال وجنود عملوا في منطقة قناة السويس، لتمتد أشعاره من قِنا إلى القناة. تعرفتُ على الأستاذ الأبنودي في جلسات الأستاذ نجيب محفوظ. كان نجيب محفوظ يلتقي أصدقاءه في مواقع متعددة بالقاهرة، وقد حضرتُ لقاءاته في فندق شبرد على نيل العاصمة، وفندق المطار، ومركب ليلة (أم كلثوم).. وقد التقيتُ في المجالس المحفوظية الثلاثة الأستاذ الأبنودي، كما التقيتُ الأديبيْن جمال الغيطاني ويوسف القعيد. من المجالس المحفوظية نشأت صداقتي بالشاعر الكبير، وكنتُ أزوره في منزله بحي المهندسين وسط القاهرة، وفي قرية الضبعية محافظة الإسماعيلية.
وكان «الخال»، كما يلقبّه المصريون، قد اعتلّت صحته وفاض الكيل برئته من فرط التدخين، وقال له الأطباء: لا حلّ لك سوى أن تغادر القاهرة لتعيش في الأرياف وسط الأشجار والبيئة النقيّة. في قرية الضبعية تتجاور حدائق المانجو، وتنتشر الحدائق على امتداد البصر، وفي طريق المانجو إلى فيلا الأبنودي، كانت توجد علامات إرشادية تحمل اسم «فيلا آية ونور»، ابنتيْ الشاعر الكبير. يجلس الأبنودي بالجلباب الصعيدي في منزله الريفي، ويمسك بعصاه، ثم يجوب حديقته ذهاباً وإياباً، وكأنه يفتش عن كنز مخبأ في الحديقة، أو ديوان شعر يهيم بين أوراق الشجر، أو قصيدة هاربة من الأوراق والأحبار إلى الأغصان والأزهار.
كان الأبنودي يطهو الطعام بنفسه لضيوفه، وعلى الرغم من أن الشاعر الكبير لا يحمل نجمة ميشلان في الطبخ، إلاّ أنه يتصرف باستعلاء غذائي يوحي بأننا إزاء «شيف» عالمي ضلّ طريقه من الفنادق ذات السبعة نجوم إلى أغنيات عبد الحليم حافظ. كتب الأبنودي لنجاة الصغيرة ومحمد رشدي، وتألّق مع عبد الحليم حافظ، وترك بصمة خلدتها تلك الأصوات البديعة. وفضلاً عن دواوينه المعروفة، ترك الأبنودي عملَه الشهير «السيرة الهلالية» التي جمعها باقتدار على مدى سنوات، كما ترك شبه مذكرات باسم «أيامي الحلوة». كنتُ واحداً ممن قدّموا الجانب الفكري من حياة الأبنودي، حيث أجريتُ معه حواراتٍ مطولةً في الإسماعيلية لبرنامجي التليفزيوني «الطبعة الأولى»، وقد تفضل فأهدى برنامجي «صوت القاهرة» عام 2014 قصيدةً بعنوان «من تاني»، قام بإلقائها بنفسه على الهواء. تعددت زياراتي للأبنودي، ولما وصل إلى مرضه الأخير، كنتُ حزيناً للغاية، لأن صديقاً رائعاً ورائداً قد وصل إلى نهاية المشوار.
بعد رحيله زرتُ بلدتَه أبنود، وشاركتُ في افتتاح متحف الأبنودي بها، وكنّا في صحبة وزير الثقافة، والإعلامية نهال كمال، أرملة الشاعر الكبير. وقف الأبنودي ضد السادات وعبد الناصر، ولم يعارض مبارك وأيّد السيسي. كان الأبنودي معارضاً لعبد الناصر وتمّ اعتقاله في عهده، لكن السادات لم يقم باستيعابه، كما أن المزايدات الأيديولوجية في السبعينيات جعلته خصماً له، على الرغم من سعي السادات لتقريبه إليه، فعادى السادات وعادَ إلى عبد الناصر.
ولم يكن الأبنودي مؤيداً لرئيس كما كان مع الرئيس السيسي، الذي رأى فيه بطلاً وطنياً، ورآه منقذاً لمصر من مسار مظلم وطريق فاشل. وكان يرى أن «المظاهر السيئة ستنحسر قريباً، وسيصبح مستقبل مصر أكثر من رائع». كان الأبنودي متفائلاً على الدوام، ولقد رأيتُه مبتسماً طوال الوقت وطوال السنين. لقد كان مثل قصائده.. بسيطاً سهلاً، يقف على الأرض، ويحيا بين الناس. واليوم.. وقد مرّ عقد كامل على الغياب.. لا يزال «الخال» يحمل عصاه ويجوب حديقة المانجو ويبتسم.. وكأنه يقول: لقد غادرتُ.. لكنني لا أزال بينكم.
*كاتب مصري