من بين الأمور الأكثر إثارة لاهتمام متابعي الشأن الخليجي استمرار دول مجلس التعاون في تنفيذ برامجها التنموية، غير عابئة بما قد يقال هنا أو هناك حول هذه البرامج أو حول توجهاتها بشكل عام، وبالأخص من قبل أولئك المحسوبين على الأيديولوجيات المتطرفة، يمينيةً كانت أم يسارية.
وضمن قضايا عديدة، يتم التلاعب بالأرقام والبيانات، فعلى سبيل المثال يشار إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس بصورة سلبية عند أول انخفاض لأسعار النفط المتقلبة، والتي لا يمكن نفي تأثيراتها على الاقتصادات النفطية عموماً، إلا أن هناك جزئية مهمة لا بد من توضيحها، إذ من المعروف أن الاقتصادات الخليجية تتكون من جزأين أساسيين، هما قطاع النفط والقطاعات غير النفطية، وكلها مرتبطة ببعضها البعض.
والملاحظ أن ذلك الارتباط كان وثيقاً جداً قبل ثلاثة عقود، إلا أن قوته انخفضت كثيراً بفضل التنوع الذي حدث خلال الثلاثين عاماً الماضية، مما يعني أن معدلات النمو الخليجية لا يمكن تقييمها كالسابق، من الناحية المهنية، إذ لا بد من فصل معدلات نمو القطاع النفطي عن القطاعات غير النفطية، فالأول يتقلب صعوداً وهبوطاً خارج إرادة الدول المنتجة للنفط ويخضع لعوامل السوق، في حين أن القطاعات غير النفطية تخضع لعوامل داخلية، وذلك رغم تأثرها النسبي بأسعار النفط.
والتطور المهم الذي تحدثنا عنه في العلاقة بين المكونَين يتمحور حول أنه بمجرد انخفاض النمو في القطاع النفطي في الماضي بسبب تراجع أسعار النفط، يتبعه انخفاض في القطاعات غير النفطية، أما حالياً فإن كلاً من المكونَين ينمو بعلاقة محدودة ناجمة عن المكون الآخر، فعلى سبيل المثال لم تصاحب انخفاض أسعار النفط في الفترة الأخيرة انخفاضاتٌ في الناتج المحلي للقطاعات غير النفطية، بل على العكس، حيث حققت هذه القطاعات معدلات نمو جيدة فاقت 4%، وهو المكون الذي يجب البناء عليه عند تقييم الأوضاع الاقتصادية بدول المجلس.
لكن البعض ما زال يأخذ بربط مستويات نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس بالدمج بين القطاعين، مما لا يعكس حقيقة الأوضاع الاقتصادية التي تتحسن وتتنوع بصورة مستمرة. ولمزيد من التوضيح، فلو افترضنا أن القطاع غير النفطي حقق معدل نمو 4%، في حين تراجعت أسعار النفط وتبعها انخفاض مساهمة القطاع النفطي، فإن النمو الإجمالي سيسجل ربما نسبة 2% فقط، وفقاً لحجم مساهمة القطاعات غير النفطية، مما لا يعكس الصورة الحقيقية للنمو.
وما يهم مستقبل دول المجلس هو نمو القطاعات غير النفطية التي تنوعت بصورة ملحوظة وأصبحت تشكل النسبة الأكبر من مكونات الاقتصادات الخليجية، وذلك بفضل الاستثمارات الهائلة في هذه القطاعات، والتي تضاعفت في السنوات الخمس الماضية، وهو ما سنتناوله في مقالة أخرى قادمة.
ومن هنا تشكل التجربة التنموية الخليجية نموذجاً للدول الأخرى المنتجة للنفط، والتي أهدر بعضُها موارده خلال العقود الماضية، إما بسبب سوء الإدارة، أو بسبب تنفيذ أجندات أيديولوجية كلفت شعوب تلك الدول الكثيرَ من الأموال والفرص الضائعة دون جدوى، إذ تشير تطورات الأعوام والعقود الأخيرة إلى تبخر هذه الأموال وفشل تلك الأجندات، في الوقت الذي أفضت فيه إلى نتائج مؤلمة لشعوب تلك البلدان، جراء تدهور الأوضاع المعيشية فيها، مصحوبةً بتراجع كبير في مستوى الخدمات والبنى التحتية.
وفي المقابل، تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي ببُنى تحتية متطورة وخدمات تعتبر من بين الأفضل في العالم، إضافة إلى مستويات معيشية مرتفعة جداً، بغض النظر عن تقلبات أسعار النفط والغاز، بل إنه يعول على هذه الدول قبل غيرها في تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية عند الأزمات أو انتهاء الحروب التي تتسبب في دمار كبير، بالإضافة إلى الخسائر البشرية، مثلما يحدث حالياً، حيث تتجه الأنظار إلى دول المجلس باعتبارها المنقذ لإعادة البناء في كل من سوريا ولبنان وقطاع غزة، حيث بدأت المساعدات الإنسانية والإغاثية تتدفق من دول المجلس نحو هذه المناطق، وهي مساعدات يتوقع أن يعقبها تدفق مساهمات إعادة البناء، مما يشير إلى أهمية التجربة التنموية الخليجية وقد أصبحت نموذجاً تحاول دول كثيرة انتهاجه.

*خبير ومستشار اقتصادي