(49) أَزُورُهُمْ وسَوادُ اللَّيلِ يَشْفَعُ لِي * وأنْثَنِي وبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغْرِي بِي
هذا بيتٌ من أبياتِ أبي الطيب، أثْنَى عليه أهلُ اللُّغةِ والبلاغةِ، وعُدَّ مِنْ فرائدِ قلائِدِهِ، فقال الثَّعالبيُّ:
«وَقَعَ التَّنْبِيهُ على حُسنِ هَذَا الْبَيْت، فِي شَرَفِ لَفْظِه وَمَعْنَاهُ، وجَوْدةِ تَقْسيمِه، وَكَونِه أَمِيرَ شِعْرِه»، مُعْتبِراً أنَّ البيتَ «فِيه تَطْبِيقٌ بَديعٌ، ولَفظٌ حَسَنٌ، ومعنى بديعٌ جَيِّدٌ (...) وقد أَجْمَعَ الحُذَّاقُ بمعرفةِ الشِّعرِ والنُقَّادُ، أنَّ لأبي الطيب نَوَادِرَ، لم تأتِ في شِعْرِ غيرِهِ، وهي مِمَّا تَخْرِقُ العُقولَ، منها هذا البيتُ».
وفي البيتِ جَمَعَ الشاعِرُ خمسَ مُطابَقاتٍ، والمُطابقةُ في الشِّعْرِ، هي الجَمْعُ بين ضِدَّيْنِ، وصورةُ مطابقاتِ بيتِ المتنبي، كما يلي:
1- قابل أزورهم (الزيارة)، ب أنثني (الانثناء) وهو المغادرة.
2- قابل سواد ببياض.
3- قابل الليل بالصبح.
4- قابل يشفع (الشفاعة) ب يغري (الإغراء).
5- قابل لفظة (لي) ب لفظة (بي)، فالشفاعة له (يشفع لي)، والإغراء به (يغري بي).
يتحدَّثُ الشاعرُ عن زيارتِه لأحْبابِهِ، وهذه الزياراتُ لا تكونُ إلَّا عندما يُرْخِي الليلُ سُدولَه، ويَعُمُّ الظلامُ، فسوادُه (ظُلْمتُه) يكون في صَفِّه (يشفَعُ) لي، وذلك بإخْفَائِهِ عن عُيون الوُشاةِ والعُذَّالِ... واعْتَبَرَ الليلَ مُنحازاً إليه متضامِناً معه، بِسِتْرِه إيَّاهُ وحِفْظِه لِسِرِّه. 
ومِن سُنَنِ الحياةِ أنَّ الأوقاتَ المُمْتِعةَ تَمْضي سريعاً، والعكسُ بالعكسِ، وأيُّ شيءٍ أَمْتَعُ من زيارةِ المِحْبوبِ ومُسَامرتِهِ ومُؤَانستِهِ، وعندما يَمُرُّ الليلُ كأنَّه لَحْظةٌ لدَرَجَةِ عَدَمِ إحساسِ الشَّاعرِ بِخُروجِ الليل ودخولِ الصُّبْحِ بَدَلَه، حَتَّى يصيرَ بياضُه واقعاً مَعِيشاً، يَعْلَمُ المتنبي حينَئذٍ أنْ لَا مَفَرَّ من المُغادَرَةِ، (وأَنْثَنِي)، أيْ أُغادِرُ المحبوبَ وأَخْرُجُ مِنْ عِنْدِه، فإذا حَلِيفِي (الليلُ) قد غَادَرَ، وخَصْمِي (الصُّبْحُ) قد حَلَّ، وخِلالَ الاِنْصِرافِ، يُمارِسُ الصبحُ طَبْعَ الخَصْمِ، فبياضُه: (ضياءُ النهارِ)، يُغري بي، إذْ يكونُ الزائرُ المغادِرُ في نورِ النهارِ مكشوفاً بَيِّناً لأَعْيُنِ المُتِطَفِّلِينَ والوُشَاةِ. فكأنَّ نورَ الصُّبْحِ يُحرِّضُ -حَدَّ الإغراءِ- كلَّ مَنْ يتَطَلَّعُ لاكْتِشَافِ زائرٍ مُتَسلِّلٍ، ليَنْظُرَ للشاعِرِ وهو يُغَادِرُ محبوبَه في وَضَحِ النَّهارِ.

(50) ومَا أَنَا مِنهُمُ بِالعَيشِ فِيهِمْ * ولَكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ
وقبلَ بيتِ القصيدِ، بيتٌ للشاعِرِ يُوَضِّحُ المعنَى الكامِلَ، يقولُ فيه:
ودَهْرٌ نَاسُهُ نَاسٌ صِغَارٌ * وإِنْ كَانَتْ لَهُمْ جُثَثٌ ضِخَامُ
أيْ إِنَّ أهلَ هذا الزَّمنِ صِغارٌ في هِمَمِهِم وضِيقِ نُفُوسِهِم، وسوءِ طِباعِهِم. والصَّغيرُ ضِدُّ الكبيرِ، فمَنْ كانتْ هِمَّتُه عاليةً، ونَفْسُه واسعةً، وطِبَاعُه حَسَنةً، فهو كبيرُ القَدْرِ والمَقامِ والمَنْزِلةِ، وعَكْسُه صغيرٌ، جَمَعَهُم الشاعرُ فقال: ناسٌ صِغارٌ، وفي عَجُزِ البيتِ يؤكِّدُ صَغَارَ هؤلاءِ، ولو كانتْ أجسادُهُم ضخمةً كبيرةً، فَلَدَيْهم كما وَصَفَ في بيتْ آخرَ: أَجْسَامُ البِغَالِ وأحْلامُ العَصافيرِ.
وبعدَ أنْ وصَفَ أهلَ الدَّهرِ بأنَّهم (ناسٌ صغارٌ)، والكلمتان جعلَهُما الشاعرُ نَكِرَتَيْنِ، فلَمْ يُعَرِّفْهُما بأل التعريفِ، إمعانًا منه في بيانِ حَقارَتِهم وضَآلَتِهم...
وبعدَ هذه الخَلْفِيَّةِ السِّياقِيّةِ، يُمكِنُ لَنَا الحديثُ عن بيتِ القصيدِ، الذي يَجْري معناه مَجْرَى معنى البيتِ السابقِ.
يَقول الشاعرُ: إنَّ سُكْنايَ بينَ هؤلاءِ الصِّغارِ، لا يعني أنِّي أنْتَمِي إليْهم ولا أنا جُزءٌ مِنْهم، ودليلُ ذلك أنَّ الذَّهبَ يُسْتخرَجُ مِنَ (الرَّغامِ)، وهو التُّرابُ، لكنَّ أحدًا عاقِلًا لا يقولُ: إنَّ الذهبَ ترابٌ، ولا التُّراب ذهبٌ، ومِثْلُ الذَّهبِ والتُّرابِ، مِثْلِي وأهلِ هذا الزمانِ.
وهذا المعنى كرَّره المتنبي في شِعرِه، ومِمَّا مَرَّ معنا منه قولُه:
فإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغَزالِ
وقولُه:
وإِنْ تَكُنْ تَغْلِبُ الغَلبَاءُ عُنصُرَهَا فَإِنَّ فِي الخَمْرِ مَعنًى لَيسَ فِي العِنَبِ

(51) كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّعْبِ فِي الأَنْ * فُسِ سَهْلٌ فِيهَا إِذَا هُو كَانَا
لو افترَضْنا أنَّ الصَّعْبَ للنَّفْسِ يكونُ إلى يَسَاِرها والسَّهْلَ إلى يَمِينِها، فإنَّ الأشياءَ التي تكونُ صعبةً على الأنْفُسِ في اليَسار، إذا تكرَّرَتْ، وعَاوَدَتْ حدوثَها، وتَعَوَّدَتْها النَّفْسُ، انتقلتْ إلى يَمِينِها، وأصبحتْ سهلةً عليها. 
في المَثَلِ: الإنسانُ عَدُوُّ ما يَجْهَلُ. 
قاتل الله الجهلَ، ما أحْقرَهُ، اُنْظُرْ كيفَ يُنْبِتُ عداوةً سريعةً.
وضدُّ المَثَلِ صَحيحٌ أيضاً، فكما أنَّ الإنسانَ عَدُوُّ ما يجهَلُ، فإنَّه صديقُ ما يَعْرِفُ ويَعْلَمُ ويَأْلَفُ.
الصَّعْبُ والسَّهْلُ، بالنسبةِ إلى النفس، لَيْسَا بَعِيدَيْن عن عَداوةِ الإنسانِ لِمَا يَجهلُ، وصداقتِه لِمَا يَعرِفُ. فما تَجْهَلُه النَّفْسُ، ولم تَعْتَدْ عليه، هو صَعْبٌ عَليْها، فإذا جَرَّبَتْه وعَرَفَتْه واعْتَادتْ عليه، عَلِمَتْ منه لطفَه، فَأَنِسِتْ لَه، واسْتَأْنَسَتْ به، وصادَقَتْهُ، واسْتَسْهَلَتْ أَمْرَهُ.