ما استخدمت لمقالاتي في الأعوام الأخيرة من العناوين بقدر عنوان «استقبال الجديد». وكان الجديد في منطقتنا صعباً ومرفوضاً، سواء من الجانب السياسي أو الاستراتيجي. ولذا فقد كان نموذجي دائماً هو النموذج الخليجي الذي تعمل دوله الوطنية على الاستقرار والكرامة والسلم والتنمية المستدامة.
وهي الأمور أو القيم والمبادئ التي نفتقدها في المشرق العربي الحافل بعدم الاستقرار والتدخلات الإيرانية والتركية والروسية والأميركية. فالجديد السلمي والاستراتيجي والسياسي هو ما ينقصنا وما يهدد فقدانُهُ أوطانَنا ودولَنا واستقرارَها ومستقبلَها. إنّ «الجديد» البنّاء الذي كنا نفتقده هو الذي بدأ يظهر في سائر أنحاء الشرق الأوسط ولبنان في الطليعة منه. ففي لبنان، ومنذ سنوات وسنوات، كان يغيب رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، وأحياناً معاً، بسبب الفيتو الذي يفرضه الحزب المسلح على البلاد وعلى النظام السياسي.
والطريف أنّ رئيس مجلس النواب (الشيعي) ما غاب أبداً، وصار هو المتحكم بالقرار، وعلى الأرض وفي مرافق الدولة الحزب المسلح. وقبل عامٍ ونصف قرر «الحزب» الدخولَ في حربٍ مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه قال: لا رئيس إلا بعد نهاية الحرب! كان الرئيس غائباً والرئاسة معطلة منذ سنةٍ آنذاك من دون حرب، والحجة دائماً أنهم يملكون مرشحاً واحداً لا بد أن ينتخبه الجميع أو لا رئيس!
في الأسبوعين الأخيرين، وقد انتهت الحرب وما خرجت إسرائيل بعد من القرى التي احتلتها، جرى انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، رغم محاولات الحزب منع ذلك.
لكنْ لأنّ الحرب ظلّت على الأبواب والحزب الذي خسرها يخشى تجددها، فقد سلّموا بذلك وبدا الدوليون والعرب هم الذين أثروا في تحديد الرئيس الجديد وليس المعارضون اللبنانيون. وقد فاز الرئيس في الدورة الأولى للمجلس بـ71 صوتاً، وصارت الأصوات تسعةً وتسعين في الدورة الثانية، إظهاراً لقيمة أصوات فريق «المقاومة» ودفعاً عن أنفسهم تُهمة القهر والإرغام!
أما رئيس الحكومة (السني)، والذي تحكّم في منصبه الفريق الشيعي منذ عام 2011 وكانوا ينوون الإبقاء على الحالي، فقد أجمع كل الآخرين، وكثير منهم كانوا أنصاراً للحزب، على اختيار الدكتور نواف سلام بأربعةٍ وثمانين صوتاً في الاستشارات الملزمة. والذي أزعج «الثنائي» بالفعل كان انتخاب الرئيس، لكن لأنهم لم يتجرأوا على الاعتراض، فقد اعترضوا على رئيس الحكومة، وزعموا أن هناك أطرافاً مجهولةً خالفت الاتفاق على ميقاتي!
المناصب الثلاثة مقسمة طائفياً: رئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة الجمهورية للمسيحيين.. لكن الحزب المسلح إبان سيطرته كان يمنع انتخاب الرئيس ويحتجز رئاسة الحكومة كما رئاسة المجلس لصالحه! والجديد يعني أنّ إنقاذ النظام اللبناني جاء عبر إخراج رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة من السطوة والسيطرة للفريق الإيراني.
ما كان ينبغي الإسراف في إيراد التفاصيل، لكن كان من الضروري التعرف على الصعوبات بل المستحيلات التي كانت تحول دون أن يُطلَّ الجديد برأسه. والذي حدث ما كان ضعف الحزب بعد الضربات فقط، وسقوط النظام السوري وارتفاع الغطاء الإيراني عن سوريا. وهكذا ورغم استمرار بعض الصعوبات، أمكن للجديد أن يُطل بعد طول تعذر. هناك رئيس جمهورية ورئيس حكومة لم يخضعا للحزب ولا لسوريا، ومهتمان بنهج جديد تغييري عبر تحقيق المتطلبات والخطط الإصلاحية التي طال تجاهلها أو إنكارها. ظهر الجديد، والأمل أن يستمر ويتقدم بعد تشكيل الحكومة. والتباشير تتولى بالإقبال الدولي والعربي على لبنان وأوله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون!
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية