(30) فَرُبَّ كَئيبٍ لَيسَ تَندى جُفونُهُ * ورُبَّ كَثيرِ الدَمعِ غَيرِ كَئيبِ
رُبَّ: «كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ، تَقُولُ: رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي. وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اشْتِقَاقٌ». (مقاييس اللغة)، ابن فارس.
الكئيب: الحزين، والكآبة: الحزن. (ابن جني).
تندى: تبتل. «(نَدِيَ) النُّونُ وَالدَّالُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ يَدُلُّ عَلَى تَجَمُّعٍ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بَلَلٍ فِي الشَّيْءِ».(مقاييس اللغة).
وعليه، فالمراد بـ (تندى) في البيت: تبتل بالدمع.
جفونه: جمع جفن، والهاء، عائدة إلى كئيب. الْجَفْنُ: جَفْنُ الْعَيْنِ، وهو ما يغطي العين من غطاء جلدي لحمايتها مما قد يؤذيها.
المعنى: أن دمع العين ليس دلالة، بالضرورة، على مستوى الحزن، فهناك حزين لا تدمع عينه، وهناك من تبتل عينه بدمع كثير، لكنه ليس حزيناً.
قال البطليوسي، تعليقاً على بيت أبي الطيب:
«وقد أوضح ما أراده من التقليل ههنا في موضع آخر، فأخرجه بغير لفظ (رُبَّ)، وهو:
وفي الأحبابِ مُختَصٌّ بِوَجدٍ * وَآخَرُ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا».
ويدل بيت المتنبي، على أن هناك أفعالاً رُبطت على الدوام بمعانٍ خاصة، لكن هذا الارتباط ربط تغليب، وليس ربط قطع، مثل ربط البكاء بالحزن، فبيَّن بيت الشعر أمثلة مناقضة لهذا الربط، فمن الخطأ افتراض أن ما يحدث غالباً، سيحدث دائماً، فخلاف الغالب قابل للوقوع، وهو نقيض في فكرته ومعناه للغالب.
قال العكبري: وأخذ (المتنبي) هذا البيت، مما أنشده أبو عليّ في آخر تكملة إيضاحه:
وَما كُلُّ ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَهُ * وَما كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلبيبِ
قُلتُ: هذا البيت منسوب لأبي الأسود الدؤلي، مذكورٌ في ديوانه. وبيت المتنبي، مختلف عن البيت السابق، وما يربطهما ببعضهما يكاد يكون ضعيفاً، ولذلك أستبعدُ أن يكون المتنبي أخذ بيت القصيد، من بيت الدؤلي هذا.
(31) إذا اشْتَبَهَتْ دُمُوعٌ في خُدُودٍ * تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَا
هذا البيت من روائع شعر أبي الطيب، وهو من أَرَقِّ أبياته. قال عنه ابن جني: «هذا لفظٌ حَسَنٌ قد صنع الناسُ فيه لحناً».
وتحضر الدموع في أبيات شعر أبي الطيب بحزن شفيف، لكن صورة معاني تلك العيون الباكية فيها من الجمال ما يُخفِّف من حُزْنها.
ومن ذلك قوله:
إِنَّ القَتيلَ مُضَرَّجاً بِدُموعِهِ * مِثلُ القَتيلِ مُضَرَّجاً بِدِمائِهِ
وقوله:
الحُزْنُ يُقْلِقُ والتَّجَمُّلُ يَرْدَعُ * والدَّمْعُ بَينَهُمَا عَصِيُّ طَيِّعُ
يَتَنَازَعَانِ دُمُوعَ عَينِ مُسَهَّدٍ * هَذَا يَجِيءُ بِهَا وهَذا يَرْجِعُ
وقوله في مطلع قصيدة له:
أَتُراها لِكَثرَةِ العُشّاقِ * تَحسَبُ الدَمعَ خِلقَةً في المَآقي؟
قوله: (اشْتَبَهَتْ دُمُوعٌ في خُدُودٍ): تشابهت دموع البكاء الصادق، بدموع البكاء الزائف. وفي هذا العصر يُوصف البكاء الكاذب، بأنه «بكاء تماسيح».
قيل: إن التماسيح تأكل فريستها وهي تبكي.
قولهم: «فلان يذرف دموع التماسيح»، يعني أنه يتعاطف تعاطفاً سطحياً، لا عميقاً، مع الحدث، أو أنه ليس بصادق في بكائه، بل هو كاذب فيه، ويتصنَّع الدَّمعَ ويُزيِّفه، ليُوهمَ الآخرين بأنه حزين، وهو ليس كذلك.
يقول: عندما تتشابه دموع الصدق ودموع الكذب في كونها دموعاً على الخدود...
تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَا
(تباكا): أي أجبر نفسه على البكاء، وتصنَّعه.
حينذاك، يظهر الصادقُ الطبيعيُّ: (مَنْ بكى)، متمايزاً عمَّن يسكب «دموع التماسيح»: (مَنْ تباكا).
إن الكذب وإنْ أقنع بعضَ الناس، ولبعض الوقت، فإنه لن ينطلي على الناس كُلِّهم، في الوقت كُلِّه. وكما يُقال: حبلُ الكذب قصيرٌ.
ولا بدَّ أن يَظْهرَ البكاءُ النابع من الأعماق، ويَتَميَّز عن دموع التماسيح، فهما وإن تشابها ظاهريّاً في الجريان على الخدود، إلا أن دموع الحرقة الصادقة، لا يمكن أن تتشابه مع دموع الزيف والكذب، لذلك دائماً يبينُ الباكي من المتباكي.
وقَصْدُ الشاعر في بيت القصيد بالمجمل هو أن يقول لمحبوبه: إن محبتي لك صادقة، وليس أنا من يظهر الحُب، ويُضمِر خلافَه!