الشعب السوري شعبٌ مُرزأٌ في العصور الحديثة، ابتلي بالرزايا والمصائب على مدى عقودٍ متطاولة، وكان قدره أن بلاده هي واسطة العقد في منطقة الشرق الأوسط قديماً وحديثاً، ففي بلاد الشام اصطدمت الإمبراطوريات وخرجت الأديان وتعددت الشعوب والإثنيات وتعاقبت اللغات وتنوعت المذاهب والطوائف.
قدر سوريا هو التنوّع والتعدد، ومهما سعت الإمبراطوريات والأنظمة السياسية لمحو ذلك كان الفشل نصيبها، وفي العصر الحديث ما كادت سوريا تخرج من حكم الخلافة العثمانية حتى دخلت مرحلةَ الانتداب أو الاستعمار الفرنسي والبريطاني مع تدخلات أميركية، ثم حصلت على الاستقلال ومرت بفترة الانقلابات العسكرية حتى رست على نظام حزب «البعث» الذي استمر لأكثر من نصف قرن.
التاريخ ليس صدفةً وتفسيره بالصدفة ضعيفٌ لا يعول عليه علمياً، والسياسة ليست مفاجأةً ولا سلسلةً من الأحداث التي لا يمكن توقعها، ولكن في التعامل مع منطق التاريخ وتقلّب الأحداث يختار البعض - إذا وقعت الواقعة - أن يقول إن الأحداث كانت صدفة والوقائع مفاجأةً.
 هذه سوريا اليوم تعصف بها الصراعات الدولية والإقليمية والداخلية، وهي تنتقل من توافقاتٍ دوليةٍ سمحت لأقليةٍ طائفيةٍ بحكمها لعقودٍ من الزمن ثم سمحت بتوحشها الطائفي الدموي العنيف ما بعد «الربيع العربي» وسمحت بالتغوّل الإقليمي لما كان يعرف بـ«محور المقاومة» في العراق وسوريا ولبنان واليمن، واليوم جاءت لحظة الحقيقة فإذا هذا المحور على الرغم من كل تأثيره السابق ليس إلا نمراً من ورق.
 كانت في المنطقة ثلاثة محاور سياسيةٍ تعمل بالتوازي خلال العقود الماضية، المحور الطائفي الذي سيطر على أربع دولٍ عربيةٍ، والمحور الأصولي الذي يريد إحياء الخلافة العثمانية ويتحالف مع جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني في الدول العربية، والمحور العربي الداعم لاستقرار الدول العربية وحماية شعوبها ومصالحها.
بعد عقودٍ من الزمن اقتنع العالم أن المحور الطائفي الذي يعتمد على الأقليات ضعيفٌ ولا يمكن أن يصنع فارقاً تاريخياً، فاتجهت الأنظار اليوم إلى الرهان على الأكثرية السنية التي تمثل عمود «الإسلام» وركنه الركين، لكن عبر صنع صراعٍ بين نموذجين للإسلام السنّي الأكثري، نموذجٌ تقليديٌ تمثله الدول العربية في «المحور العربي» ومعها غالبية الدول المسلمة في العالم، ونموذجٌ أصوليٌ تمثله الدولة الراعية لـ«المحور الأصولي» الذي يجمع كل جماعات الإسلام السياسي التي رعاها الغرب لعقودٍ من الزمن.   
 ولئن كانت سوريا خاتمة الأنظمة الشمولية الشرسة والاستثنائية في المنطقة، فإن مستقبلها يهدد بأن تصبح محوراً للأصولية والصراع الذي سيمتد عقوداً من الزمن في المستقبل.
 المولعون بالأرقام لا يستطيعون قياس قوة الثقافات وتأثير الديانات وطغيان الأيديولوجيات، فهذه شؤون لا علاقة لها بالأرقام، وهي تتطلب معرفةً ووعياً وقدرةً على التحليل والتركيب لا تتوافر لمدمني الآلات الحاسبة ومحترفي الاقتصاد.
نحن أمام مرحلةٍ جديدةٍ تحتاج نظراً وتأملاً وتحليلاً يبتعد عن الآني والحدثي لينفذ إلى أعماق أبعد معرفياً وتاريخياً وثقافياً.
 «محاكم التفتيش» التي تنصبها الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي للفنانين السوريين هي نموذجٌ للفوضى التي لا تميّز بين مغلوبٍ على أمره، مثله مثل الشعب السوري، وبين ضالعٍ في الجرائم.
وأخيراً، فالشأن السوري هو عمود التغييرات الكبرى التي جرت في المنطقة، ويجب تناوله بكافة الزوايا تبصراً بالواقع واستشرافاً للمستقبل.
*كاتب سعودي