السفر لغة قطع المسافات، وعادة ما يرتبط السّفر بالمسافات المكانية ويُغْفل عن المسافات الفكرية والشعورية، وهو ضربان من السّفر، سفر إلى الأوطان للإقامة أو السياحة أو التجارة، وسفر بالأفكار إلى مراتب أُخر هي للمفكرين كالأوطان كما يقول ابن باجة.
ولم تنِ الأدبيات الشّعرية والسّردية والتّعاليم الدينية تحثّ على السّفر، وهي كلّها دعوة إلى إعلاء التجربة الإنسانية الذّاتية أولوية في فهم العالم وفهم الذات على السواء، فالعالم كتاب مسطور لا يُفهم إلا بقراءته، وقراءته لا تكون إلا بالسّفر فيه، ومن هنا أهمية شدّ الرّحال. والذَّات غيريةٌ ممتدة لا تفهم إلا بالاحتكاك بالآخر، وفي السّفر مجالات لسبر أغوار النفس من خلال سبر أغوار الآخرين، فلا فهم للذّات إلا من خلال فهم الآخر، ولا فهم للآخر إلا من خلال ضيافته والتّعرف عليه، وفي مغامرة السّفر دروبٌ غيرية للذّات. إنّ في أرض الله وفي أنفس النّاس مجاهيل لا يُسْفر عنها إلا السّفر: في أرض الله أسرارٌ مخبوءةٌ سواء كانت طبيعية أو ثقافية، طبيعية تشي بجمال الخلق وبديع الصنعة، وثقافية تشي بمغامرة العقل الكبرى في صنع الحضارة، وللآثار المدفونة لسانٌ عريض يحكي قصّة الأولين، وهي قصة لا تُسمع إلا في السّفر.
وفي نفوس النّاس أسرار مخبوءة تشي بالاستعدادات الكثيرة التي وهبت لهذا الكائن الضّعيف، ليصبح سيّد الكون بطاقة الفكر وعظمته. فالإنسان وإنْ كان ضعيفاً من حيث الجِرْم فهو قصبة مفكرة، بتعبير باسكال، عظمتُه تكمن في الفكر، ولا تعرف قيمة هذا الفكر إلا في آثار الناس المكتوبة على الرّق والألواح والحجر، وفي الآثار المنطوقة والمتداولة شفوياً عبر الدّهور، وفي الآثار المطمورة في مغابن الأرض، ومن هنا أهمية السّفر في الكشف عن عظمة الفكر في الآثار الإنسانية، وبخاصة السَّفر العلمي المنظّم لعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيا، وعُلماء الآثار، وغيرهم من أهل العلم الذين نذروا حياتهم للبحث العلمي في سُنن المجْتمعات وآثارهم، والكشف عن خبايا عظمة الفكر وأهله.
وعالما الفلاسفة والكتب في علاقتهما بالسّفر هو عالم الأسرار الكبرى، فالفلسفة إنّما تدين بوجودها إلى السَّفر، فهل كان بإمكان الفلسفة أن تزهر في بلاد اليونان لو لم يكن لفلاسفتها شغف بالسّفر؟؟ فلقد كان لِسَفَرِ طاليس وأفلاطون إلى مصر، أثرٌ كبير في تكوّن فلسفتيهما. ومن يدري فلعلّ فيثاغورس قد سَافر إلى العراق وأخذ منها مبرهنته الشهيرة والتي وُجِدَ أصلُها في لوحةٍ طينية عراقية؟؟ وكما تدين الفلسفة بوجودها إلى سفر الفلاسفة فإنّها تدين بوجودها إلى سفر الكتب أيضاً، ورحلة الكتب عبر البلدان، ومغادرتها أوطانها لتستقر في أوطان أخرى، رحلة عجيبة لثمرات العقول الإنسانية التي كان لها الأثر القوي في بناء الحضارة.
وتكفي الإشارة إلى رحلة الكتب الفلسفية اليونانية إلى الإسكندرية أولاً، ثم منها إلى الرّها وناصبين وجنديسابور وأنطاكية قبل أن يستقر المقام بها في بغداد وقرطبة لتكون رحلتها الأخيرة وليس الآخرة، إلى العالم اللاتيني، عبر الترجمة اللاتينية للنصوص العربية الفلسفية، الفرصة الفريدة التي أتيحت للاتين للدخول إلى تاريخ الفكر النظري ليستأنفوا ما بدأه المسلمون وجَوَّدوا فيه. ولولا هذا السّفر العجيب لكان لتاريخ الفكر النظري في الغرب قصّة أخرى. إن السّفر كشّاف لأسرار الطبيعة والفكر، وهو كاشف لهشاشة النّفس الإنسانية في مسيرتها نحو كمالاتها المفقودة، إن السّفر لهو التّجربة الوجودية الكبرى في حياتنا، وهل وجودنا على ظهر هذه الأرض إلا كرجل استظل تحت ظل شجرة ثم غادرها مسافراً إلى وجهته المعلومة أو المجهولة؟!
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.