تحتفل دولة الإمارات بالعيد الوطني الثالث والخمسين، وهي أقوى وأكثر صلابة على المستويين الداخلي والخارجي، وقد حققت الإنجاز تلو الآخر، وما زالت تتطلع إلى آفاق أوسع من الريادة والتميز، مستندة إلى مسيرة طويلة من الاستقرار والتنمية عبر العقود الخمسة الماضية.
ولا شك أن هذا الاستقرار والتطور الذي نشهده يعود في أساسه إلى استمرارية النهج وثبات المبادئ، فمنذ عهد الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ثم المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراهما، وصولاً إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، شكلت حكمة القيادة وبصيرتها الثاقبة ووضوح رؤيتها أساس الاستقرار والازدهار، الذي نعيشه واقعاً ملموساً في كافة أوجه الحياة.
إن القيادة الرشيدة، المدركة لطبيعة كل مرحلة ومتطلباتها، والمؤمنة بمسؤولياتها تجاه شعبها، لطالما كانت الركيزة الرئيسية لنجاح الدول وتقدمها، والتاريخ شاهد حي على العديد من الدول التي امتلكت مقدرات وإمكانيات ضخمة، إلا أنها وبسبب افتقادها لرؤية القيادة وحنكتها وحكمتها في إدارة دفة الحكم لم تحقق النجاح المأمول.
ولا يزال الكثيرون منا، ممن عاصروا تأسيس الدولة، يتذكرون تفاصيل الظروف الصعبة، والتحديات الجمة التي كانت تحيط بالإمارات خلال مرحلة النشأة، ورغم ضعف البنى التحتية والأوضاع الاقتصادية المتردية وغياب المؤسسات والتنظيم، إلا أن كل تلك المعوقات لم تثنِ القيادة عن إصرارها على تغيير هذا الواقع، من خلال جهد مشترك جمع المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراهما وإخوانهما القادة المؤسسين، لتبدأ مسيرة العمل والإنجاز، وتوطيد مكانة الدولة وإدارة مواردها بكفاءة واستدامة، وبشكل يضمن تحقيق أهداف النهضة والتنمية، وبما ينعكس خيراً على مواطني الإمارات.
لقد شكلت هذه الحكمة الركيزة الأساسية التي قامت عليها مسيرتنا، والعامل الأهم في تجاوز التحديات، والاستفادة من الفرص المتاحة، وعدم الانغلاق على الواقع والاستسلام له، فقد أثبتت قيادتنا قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة ومتزنة في الوقت المناسب، بشكل أوصلنا اليوم إلى مراتب متقدمة في مجالات عدة. وفي الذكرى الثالثة والخمسين لتأسيس دولة الاتحاد تمضي مسيرة النهضة قُدماً في ظل استقرار راسخ، رغم كل ما يدور بالمنطقة من تحديات وصراعات، فنحن في الإمارات نؤمن تماماً أن عدم الاستقرار هو العدو الأول للتنمية، فلا تنمية دون استقرار، وكذلك لا استقرار ثابت ومتواصل بلا تنمية تنعكس على الإنسان وحياته وأمنه وقدرته على الإبداع والتميز.
وعلى امتداد العقود الماضية عملت الإمارات على الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، فتبنت أفضل الممارسات العالمية، لتعزيز منظومتها الاقتصادية، وتقوية قدراتها العسكرية، وفتح آفاق جديدة لمجالات التنمية، وفي الأعوام الأخيرة بدأت الدولة بتطوير رؤيتها وأهدافها، من خلال التطلع إلى التكنولوجيا المتقدمة، باعتبار ذلك استثماراً في المستقبل، وتعزيزاً لمصادر الدخل، ومواكبة للتطور العالمي، بما في ذلك الانتقال من استخدام التكنولوجيا إلى الاستثمار فيها، فلم يعُد الأمر مقتصراً على مواكبة الحداثة فحسب، بل نطمح أن تكون من رواد المستقبل في المنطقة، وقادرين على استيعاب التحول التكنولوجي واحتضان الابتكار.
وقد ترافق التطوير الاقتصادي والتكنولوجي مع تحقيق منظومة العمل الحكومي قفزات ساهمت بشكل كبير في تغيير مفاهيم الإدارة والعمل العام، وتحويل التحديات إلى فرص، واستشراف المستقبل والاستعداد لمتطلباته، وذلك برؤية وقيادة استثنائية لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الأمر الذي وضع الدولة على مسار تنموي طموح، ورسخ نموذجها للتغير الإيجابي المدروس والمحدد الآليات والأهداف.
وفي ظل نموذجنا التنموي متعدد الأبعاد، أصبحت الإمارات مقصداً للكفاءات والخبرات العربية والأجنبية، القادرة على المساهمة الفاعلة في عملية التنمية، مع توفر بيئة عمل خصبة تدعم الإبداع والابتكار والتميز، فباتت الخبرات الجديدة تتراكم وتضاف إلى سابقاتها، حتى أصبحت الإمارات اليوم مُصَدِّراً لبعض التجارب الناجحة في قطاعات مثل الإدارة والاقتصاد والتحول الرقمي وغيرها، ورغم ذلك، إلا أننا لم نركن للإنجازات المتحققة، فما زلنا نتعلم ونستفيد من تجارب الآخرين كما يستفيدون من تجربتنا.
إن هذه المكانة التي وصلنا إليها لم تكن ممكنة لولا قدرتنا على الحفاظ على توازن دقيق بين القيم العريقة لمجتمعنا، والمتمثلة في التعاضد والتواضع والتسامح واحترام الآخر والعمل الجماعي والمحافظة على قيمنا العربية والإسلامية، وبين القيم الحديثة التي تعكس تطلعاتنا نحو المستقبل، وخاصة في منظومة العمل والإدارة والانفتاح على العالم، فضلاً عن تقنين القيم التقليدية في إطار حديث يتماهى مع تطورات العصر ومتطلباته.
وعلى صعيد الإنسان الإماراتي، فقد كان للاستثمار في الشباب والتعليم وغرس الهوية الوطنية والتجربة المميزة للخدمة الوطنية، على سبيل المثال، دور رئيسي في تعزيز الانتماء في المجتمع، فالإنسان الإماراتي مؤمن تماماً أن قيادته توليه كل الاهتمام والرعاية وتوفر له أفضل الخدمات عبر مؤسسات كفؤة، وهذا الشعور بالانتماء يمتد أيضاً إلى المقيمين في الدولة، نظراً لما وفرته لهم دولة الإمارات من استقرار وأمان وفرص لبناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
ولطالما سمعنا من الزوار والمقيمين في دولة الإمارات، أنهم يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع، وأن النظام والمؤسسات وفرا لهم بيئة تتميز بالتسامح الاجتماعي والديني، وفرصاً للتطور والارتقاء، وبالتالي من المهم المحافظة على هذا التوجه؛ كونه عاملاً من عوامل الإنجاز الذي تحقق عبر السنوات الماضية، ومساهماً للدفع نحو المزيد من التقدم.
في المجمل ودون الخوض في التفاصيل، فإن المشهد الداخلي في الدولة يمر في هذه المرحلة بتحولات إيجابية تعزز من استقرارنا وتنميتنا على كافة الأصعدة وثقتنا بالمستقبل، سواء من حيث النمو الاقتصادي أو البنية التحتية المتطورة أو تعزيز البرامج المتعلقة بالمواطنين، والتوجه نحو قطاعات المستقبل الواعدة وفي مقدمتها التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، وهذه التحولات تعكس مدى التزام الدولة بتقديم أفضل الفرص لمواطنيها والمقيمين فيها، مما يجعلنا نتمتع بمناخ يشجع الجميع على تحقيق النجاح الشخصي، ويسهم في التنمية المستدامة، ونحن مستمرون في هذا المسار التنموي الذي أثبت نجاعته بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، وإخوانه حكام الإمارات.
وعلى الصعيد الخارجي، أصبحت الإمارات تلعب دوراً نشطاً ومؤثراً على المستوى العربي والإقليمي والدولي، بالتعاون والتنسيق مع الأشقاء والأصدقاء، خاصة فيما يتعلق بدعم استقرار المنطقة، مدفوعة من مبدأ أساسي في سياستها الخارجية وهو الحفاظ على سيادتها وعدم التفريط بها واحترامها، بالتوازي مع إدراك عميق لطبيعة النظام الدولي ومتغيراته والتحديات والأطر التي يجب أن تتحرك من خلالها. كما طورت الإمارات خلال الأعوام الماضية نهجها الإنساني والإغاثي للتعامل مع أزمات المنطقة، ليصبح هذا النهج مكوناً رئيسياً في سياستها الخارجية، مستفيدة من تجربتها وإمكانياتها في هذا المجال.
وما يميز سياسة الإمارات الخارجية أنها متوازنة ومعتدلة، ومدركة للتشابكات وديناميكيات العمل الجماعي، الأمر الذي مكن الدولة من بناء شبكة علاقات متينة وتحالفات دائمة، وضمن دوائر اهتمام رئيسية، وهذا النهج الواقعي أسهم بشكل كبير في ترسيخ مكانة الإمارات وسمعتها الطيبة ومصداقيتها. وفي هذه الظروف الصعبة التي تشهدها المنطقة تدعو دولة الإمارات إلى تغليب الحوار وآليات العمل السياسي لحقن الدماء، وذلك ضمن توجه يسعى إلى التوفيق والبحث عن المشترك والابتعاد عن التصعيد والمواجهة.
ويمتد نهج الإمارات في احترام سيادتها واستقلال قرارها السياسي إلى تعاملها مع الدول الكبرى، لذلك فإن المجتمع الدولي يجد في الدولة شريكاً عربياً وإقليمياً يعتمد عليه ويُعتد به، إذ ابتعدت الإمارات تماماً عن لغة الشعارات الأيديولوجية والمزايدات، وانتهجت الواقعية والحكمة في تفاعلها مع كافة الدول ومختلف القضايا، وهي تعمل مع الأشقاء والأصدقاء ضمن شراكات هدفها الأساسي الأمن والاستقرار والتنمية.
إن المصداقية التي اكتسبتها الدولة على مدى العقود الماضية لم تأتِ من فراغ، بل هي ثمرة لنهج واقعي وعملي وتوازن بين المبادئ والثوابت وبين التحالفات والعلاقات مع الأشقاء والأصدقاء، واليوم نحصد ثمار هذه السياسة الحكيمة على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي، ويظهر هذا جلياً من خلال قدرة الدولة على التصدي لتحديات إنسانية كبيرة مثل مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 28)، والذي تمكنت الدولة خلاله من حشد الجهود الدولية وتحقيق توافق تاريخي بين الدول الأطراف من أجل مستقبل العمل المناخي، كذلك تبنيها مشاريع عديدة لتحقيق التنمية المستدامة وحماية البيئة وندرة المياه والأمن الغذائي، ما يؤكد التزامنا نحو مستقبل أفضل للأجيال المقبلة، وما حققته الدولة في (كوب 28) ليس سوى مؤشر على الدور الذي تلعبه الإمارات في القضايا المهمة في النظام الدولي المعاصر.
وأما فيما يتعلق بالقضايا العربية، فقد كانت الإمارات في طليعة المدافعين عن استقرار المنطقة وقضاياها العادلة، وقامت بتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن الدولة الوطنية العربية ضد الفوضى والعنف، الذي اجتاح المنطقة خلال مرحلة دقيقة من تاريخها، كما لعبت دوراً كبيراً في مكافحة التطرف والإرهاب منذ وقت مبكر، فقد أدركت مدى الخطر الذي تشكله هذه الآفة على استقرار وازدهار المنطقة وأمن ورفاه شعوبها.
وتتخطى مساهمات الإمارات نطاق الدفاع عن قضايا الإقليم إلى رسم بعض معالم مرحلة جديدة تركز على التنمية والاقتصاد والاستقرار، باعتبار ذلك أداة تعاون إقليمي، والعمل من خلال المشاريع العابرة للحدود على تعزيز استفادة كافة الشعوب العربية من منافع وفوائد هذا التوجه التنموي، والإمارات ماضية في هذا المسار وتعمل على تشجيع الآخرين على السير فيه.
ورغم ما تحقق من إنجازات عديدة وفريدة، وما حققته الإمارات من مكانة وسمعة طيبتين، إلا أن طبيعة العالم وحركته تفرض تحديات جديدة، مما يحتم علينا مضاعفة الجهود والابتكار، وفتح آفاق أوسع للفرص والاستثمار فيها لضمان الاستمرار في تحقيق المزيد من النجاح.
ومع مرور 53 عاماً على تأسيس الاتحاد نجد أن مسيرتنا لم تتوقف، بل تتجدد مع كل جيل، فقوتنا الحقيقية تكمن في قيادتنا الحكيمة واستمرارية نهجنا وتلاحم مجتمعنا والمرونة التي تُمكّننا من التعامل مع تحديات العصر ومتطلباته، واليوم وفي ظل ما حققته الدولة من إنجازات وتطور مشهود تقع على عاتق شبابنا مسؤولية البناء على هذا المنجز والمراكمة عليه، واغتنام ما حققته الدولة للانطلاق إلى فضاءات أوسع من التقدم والإبداع.
وأخيراً، يحق لنا أن نفخر ونحن نحتفل بالعيد الوطني الثالث والخمسين أن الإمارات ورغم كل تعقيدات المنطقة، إلا أنها رسخت نموذجها التنموي الناجح، وهي بفضل الله ثم بفضل قيادتها وشعبها بخير وأمان، وستعمل بكل حكمة مع الأشقاء والأصدقاء للخروج بمنطقتنا إلى بر الأمان والازدهار والتنمية.