نحتفل في السادس عشر من نوفمبر كل عام باليوم الدولي للتسامح، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل 28 عاماً؛ لتشجيع العالم على ثقافة التسامح والحوار والتعاون والاحترام بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب. واللافت للنظر في الأمر أن هناك علاقة وثيقة تربط العمل الشرطي وإنفاذ القانون بالتسامح والتعايش بين الشعوب، فكلما كانت المجتمعات متسامحة فيما بينها، ومتقبلة للآخر، ومنفتحة على الحوار؛ كانت أكثر أماناً واستقرارًا؛ وانعكس ذلك على تقدُّمها، وازدهارها، ورفاهية شعوبها. 
يشهد عالمنا المعاصر تحديات أمنية متنامية تفرضها أسباب عدَّة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الصراعات الإقليمية والدولية، والتغيرات المناخية، والجرائم السيبرانية، وانتشار الفكر المتطرف والجماعات الإرهابية، وغيرها، في الوقت الذي أصبحت فيه مجتمعاتنا أشبه بقرية صغيرة، ففي الماضي كانت الشعوب مستقلَّة في جغرافيا خاصة ومنفردة بمعتقداتها وآرائها، إلا أنها أصبحت اليوم أشد ارتباطاً بمَن حولها، وانكشافاً عليه، وسعياً إلى التصدي لتلك التحديات أصبح تبنِّي قيم التسامح وتقبل الآخر اليوم أهم ممَّا مضى وأمراً ضرورياً لتعزيز الأمن العالمي والتعايش السلمي. 
وتسهم ثقافة التسامح في الحدِّ من التوترات والصراعات بفضل دورها في تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الفئات المجتمعية، وبناء جسور التواصل بين الشعوب. ويمكِّن هذا الأمر جهودَ التعاون الدولي، ويسهم في حلِّ النزاعات بطريقة سلمية، كما أن نشر ثقافة التسامح أصبح أمراً ضرورياً لتحقيق الاستقرار والسلام، من خلال تقبُّل الاختلافات الثقافية والدينية والاجتماعية، وتعزيز قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات الأمنية المشتركة. 

التنوع والاحترام من أهم ركائز الإنتربول

تحرص منظمة الإنتربول، التي تضم 196 بلداً من مختلف أرجاء العالم، على احترام التنوع، وضمان تمثيل جميع الدول الأعضاء، وإيصال أصوات هذه الدول في المنظمة مهما كان حجمها الجغرافي، أو ثقلها السياسي؛ إذ يعكس هذا النموذج تجسيداً عملياً لقيم المشاركة، ويضمن احترام جميع الآراء ووجهات النظر. ويرتبط التزام الإنتربول بالتنوع ارتباطاً وثيقاً بترسيخ قيم الاحترام، التي تؤدي دوراً أساسياً في تعزيز نجاح جهود المنظمة، وتحقيق التعاون المأمول بين الدول؛ إذ تسهم هذه الجهود في توفير منصة تمكِّن جميع الأطراف، بغض النظر عن اختلافاتهم، من السعي إلى تحقيق هدفنا المشترك نحو مكافحة الجريمة المنظمة بكل أنواعها وأشكالها.

توظيف التقنيات الحديثة

نثق في منظمة الإنتربول بقدرة التقنيات الحديثة على مساعدتنا في مكافحة الجرائم، وترسيخ قيم التسامح؛ إذ نعمل بشكل مستمر على استكشاف أفضل السبل التي تعزز دور هذه التقنيات في دعم عملنا الشرطي، سواء من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الجرائم، أو التفاعل مع المجتمعات الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي للتعرُّف إلى الاتجاهات السائدة.
وتسهم عمليات تحليل الأنشطة الإرهابية على الإنترنت في دعم جهودنا لمكافحة الإرهاب، كما يوفر دليل المنظمة «استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للتحقيقات المتعلقة بمكافحة الإرهاب» إرشادات عملية للمحققين حول العالم. وأسهم توظيف التكنولوجيا في تحقيق نتائج ملموسة على صعيد حماية التراث الثقافي، ففي سبتمبر 2023 تم اعتقال 60 شخصاً، واسترجاع 11049 قطعة أثرية مسروقة في إطار عملية Pandora VII، وهي عملية دولية كبرى استهدفت مكافحة الاتجار بالأعمال الفنية في 14 دولة من الدول الأعضاء بالإنتربول. ويُعزى نجاح العملية بشكل كبير إلى «قاعدة بيانات الإنتربول للأعمال الفنية المسروقة» التي تعد واحدة من 19 قاعدة بيانات توفرها المنظمة للدول الأعضاء.

الإمارات نموذج يحتذى به للتسامح والتعايش المشترك

تُعَدُّ ثقافة التسامح والتعايش في دولة الإمارات ثقافة متجذِّرة، وأسلوب حياة يتبناه مواطنو هذا البلد الخيِّر وسكانه على اختلاف جنسياتهم. ولطالما كان لهذه التجربة أثر إيجابي كبير في مسيرتي المهنية بالمجال الشرطي؛ إذ ولَّدت في داخلي إيماناً عميقاً بأن أمن المجتمعات لا يتحقق إلا من خلال تعزيز ثقافة التسامح والاحترام المتبادل بين جميع الأفراد. ولم يأتِ هذا الأمر من فراغ، فقانون مكافحة التمييز والكراهية والتطرف في دولة الإمارات، الذي يمنع ويُجرِّم ويعاقب جميع الأعمال والأفعال والأقوال التي تصب في خانة ازدراء الآخر، أو التطاول عليه، أو حتى التقليل من شأنه، أسهم ويسهم في ترسيخ مبادئ الاحترام والتسامح والتعايش بين أكثر من 200 جنسية تعيش على أرض الإمارات. 
وكانت دولة الإمارات قد أعلنت عام 2019 عاماً للتسامح بهدف تأكيد قيمة التسامح وعدِّها امتداداً لنهج المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، فضلاً عن استحداث البلاد منصب وزير دولة للتسامح لأول مرة في عام 2016 من أجل ترسيخ قيم التسامح والتعددية وقبول الآخر. 
وفي عام 2023 نجحت جهود دولة الإمارات الحثيثة في اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار التاريخي رقم (2686) بشأن التسامح والسلام والأمن الدوليين، إذ تضمَّن القرار لأول مرة إقراراً دوليّاً بوجود علاقة بين خطاب الكراهية، وأعمال التطرف والسلام والأمن الدوليين، كما أبرز دور التمييز العنصري، والتمييز بين الجنسين، في اندلاع النزاعات وتفاقمها، مؤكداً أهمية العمل لنشر قيم التسامح والتعايش السلمي. 

تعزيز التفاهم بين الشعوب يسهم في الحدِّ من التطرف

لا شك أن ترسيخ قيم التسامح والاحترام يسهم في الحدِّ من جاذبية الأفكار المتطرفة، واجتثاث ظاهرة التطرف من جذورها، وتوفير حلول لمشكلات الفقر، وانعدام المساواة، والتهميش الاجتماعي؛ ولكن هذا يتطلب نهجاً شاملاً يرتكز على تعاون الجهات المعنية بإنفاذ القانون، وجهود المجتمع المدني وقادة المجتمع، والمسؤولين الحكوميين. 

وتتيح لنا فعاليات مثل «المؤتمر الدولي لحوار الحضارات والتسامح»، الذي استضافته العاصمة أبوظبي مطلع هذا العام، فرصة مواتية لمناقشة سبل تعزيز مفهوم التسامح والتعايش، وترسيخ قيم التسامح والحوار بين الحضارات حول العالم. وخلال مشاركتي في المؤتمر سلَّطت الضوء على العلاقة التي تربط العمل الشرطي وإنفاذ القانون بالتسامح والتعايش بين الشعوب، ودور منظمة الإنتربول في الحفاظ على استقرار الشعوب والمجتمعات، وتعزيز الأمن العالمي. وكان هذا الحدث فرصة مهمة لتبادل الأفكار والتعلم من تجارب الآخرين، تحت مظلة «الاختلاف لا يعني الخلاف»؛ وذلك لإيجاد طرق جديدة ومبتكرة للوصول إلى مستقبل مشرق يقوم على تفهُّم الآخر واحترامه. 

ليس التسامح قيمة أخلاقية نبيلة فحسب، بل ركيزة أساسية لبناء عالم يسوده الأمن والسلام، وينبغي لنا جميعاً التعاون لتعزيز ثقافة الاحترام والتسامح التي تمكِّننا من مواجهة التحديات، وتوفير بيئة مثالية مستقرة لترسيخ التفاهم والاحترام المتبادل. 


اللواء الدكتور/ أحمد ناصر الريسي
رئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية «الإنتربول، المفتش العام لوزارة الداخلية بدولة الإمارات»