بعد فوز الرئيس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كتب المفكر ذائع الصيت «فرنسيس فوكوياما» مقالاً مطولاً بعنوان «ماذا يعنيه صعود ترامب بالنسبة لأميركا» («فايننشيال تايمز»، 8 نوفمبر)، يمكن اعتباره نكوصاً صريحاً عن أطروحته الشهيرة حول نهاية التاريخ وما يترتب عليها من انتصار حتمي للنظام الليبرالي عالمياً.

في المقال المذكور، يذهب فوكوياما إلى أن أهمية انتصار ترامب والحزب الجمهوري لا تكمن فقط في التحولات الاستراتيجية المنظورة اتجاه قضايا الساعة الملتهبة، بل تعني في عمقها رفض الناخبين الأميركيين القاطع لليبرالية وما تقوم عليه من تصور للمجتمع الحر. لما وصل ترامب إلى السلطة في عام 2016 اعتبر الكثيرون أنه حالة استثنائية سرعان ما تنتهي وتعود الولايات المتحدة إلى ثوابتها الطبيعية، وقد عزز نجاح خلفه بايدن في الانتخابات التالية هذا الانطباع، لكن أصبح من الجلي اليوم أن بايدن هو الاستثناء وليس ترامب الذي يعبِّر عن تحول جذري في المجتمع الأميركي.

لقد قامت الليبرالية الكلاسيكية - حسب فوكوياما - على احترام الكرامة الإنسانية المتساوية عن طريق دولة قانون تحمي الحقوق وتحد من تدخل الدولة في حرية الأفراد. إلا أن الخمسين عاماً الأخيرة شهدت نمطين من الانحراف داخل النموذج الليبرالي، هما: انبثاق «الليبرالية الجديدة» التي تغلِّب منطقَ السوق على واجب حماية الأفراد من مساوئ الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط، بما نجم عنه انهيار الطبقة العاملة وانتقال الثورة الصناعية إلى آسيا وأصقاع أخرى من العالم النامي، وانبثاق السياسات الهوياتية التي تبرز اليوم في موجة «اليقظة» (woke)، بما انعكس في تراجع الاهتمام بالشغيلة وتركيز النظر على الفئات الجندرية والعرقية والمهاجرين.

وهكذا لم تعد سلطة الدولة تستخدم في إقامة العدالة غير المتحيزة، وإنما في التمييز الإيجابي لصالح هذه المجموعات الخصوصية. وفي الأثناء، تحولت أسواق العمل إلى نمط من الاقتصاد المعلوماتي، بما استفادت منه النساء اللواتي سيطرن على مسالك الشغل الإلكتروني وعززن موقعهن الاجتماعي. وهكذا نجم عن هذه التحولات تبدل جوهري في القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، فانفصلت الحركة العمالية عن أحزاب اليسار التي غدت تتشكل أساساً من السياسيين المحترفين والإطارات المدينية العليا، وأصبحت هذه الحركة داعمة لليمين المحافظ. وفي أوروبا على سبيل المثال، تحوّلت القاعدة العمالية إلى أحزاب اليمين المتشدد كما هو الشأن في فرنسا وإيطاليا.

وفي تحليله لهذه الظاهرة، يذهب فوكوياما إلى أن هذه المجموعات تمردت على نظام للتبادل الحر يقضي على وسائل العيش الأدنى، في الوقت الذي يخلق فيه طبقةً من الأغنياء المترفين، كما نزعت ثقتَها من الأحزاب التقدمية التي يبدو أن تركيزها أصبح على المهاجرين وقضايا البيئة وليس على حقوق ومطالب الشغيلة. ما جرى مؤخراً في الولايات المتحدة هو مصداق هذا التحول، حيث استفاد ترامب من دعم الناخبين البيض من الطبقة العاملة، وقد التحق بهم الناخبون السود واللاتينيون خصوصاً من الذكور، بما يعني أولويةَ الطبقة الاجتماعية على الأصول العرقية أو الإثنية.

إلا أن الأهم من ذلك كله، هو تخلي الناخبين الأميركيين عن النظام الليبرالي محلياً ودولياً، سواء تعلق الأمر بالليبرالية الجديدة وموجة اليقظة أو بالليبرالية الكلاسيكية التي هاجمها الرئيس المنتخب بوضوح. لا بد من تصديق ترامب عندما يتعهد بوضع حد لنظام السوق الحرة من خلال التشريعات الحمائية وكبح الهجرة الخارجية المرتبطة تاريخياً بحيوية النظام الاقتصادي الأميركي. كما أن كل المؤشرات تدل على أنه سيتعرض للفصل بين السلطات، بما سيحدِث تحولاً عميقاً في النسق المؤسسي الأميركي.

وعلى الساحة الخارجية، سيعمل ترامب على إنهاء الشراكة الأمنية والاستراتيجية الخاصة مع أوروبا، وقد يتقارب مع روسيا على حساب المصالح الأوكرانية، بما يحدث تحولاً كبيراً في طبيعة المنظومة الليبرالية العالمية، أي تحالف الديمقراطيات الغربية. تلك هي الخلاصات التي يصل إليها فوكوياما في تحليله لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

وكما هو واضح، فقد تخلى صاحبُنا عن مقاربته السابقة في استكناه مسار الليبرالية العالمية، وظهر له أن ديناميكية العولمة بقدر ما دفعت وحدة السوق وتحرير التجارة ولّدت إشكالياتٍ مجتمعيةً جديدةً أصبحت اليوم هي الإطار المحدِّد للحركية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية. وليست لحظة ترامب سوى التعبير عن هذا التحول النوعي الذي لم ينتبه إليه كثيرون في البداية.

*أكاديمي موريتاني