أصدر الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي كتابه الجديد عن الهوية الوطنية في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويشكل عمله هذا دراسةً علميةً للمسألة التي يتردد كثيرون في طرحها باعتبار المخاوف من التشدد القومي أو الديني. والواقع أنّ الهوية الوطنية في المرحلة المعاصرة هي قرينة المواطنة، ومستند الولاء للدولة والاستقرار والتسامح والعيش المشترك.
وترتبط الهوية بالإحساسات العميقة والوعي المتنامي بالانتماء إلى المحيط ذي الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية. وكان ابن خلدون، كما هو معروف، يفهم الدولة باعتبارها تتأسس على عصبيةٍ (الهوية التأسيسية) ما تلبث أن ترتبط بالدعوة والمكان وبالكيان السياسي (الموطن والدولة). لكننا نعرف من التجارب الوطنية الحديثة في العالم أنّ مسار تشكل الهوية الجامعة والموحِّدة اتخذ في التاريخ أحد مسارين: المسار الذي تعمد فيه جماعة باعتبار الانتماء المشترك الإثني والثقافي والجغرافي واللغوي إلى إقامة كيانٍ سياسيٍّ لهذه الهوية المتبلورة، محوِّلةً ذلك الوعي إلى انتماءٍ قومي تحضر فيه الأبعاد التأسيسية للهوية التي على أساس الوعي بها تجري إقامة الدولة.
وقد جرى تكوين الدول بهذا الشكل (يعني من الثقافة والوعي والعمل السياسي) في ألمانيا وفي إيطاليا ودول أخرى حديثة في أوروبا وآسيا. أما المسار الثاني فهو للهوية المتكونة على شكل انتماءٍ واسع من خلال الكيان السياسي الواحد العريق، كما جرى في فرنسا وإنجلترا قديماً وفي أميركا أو الولايات المتحدة حديثاً. بمعنى أن الكيان الواحد القائم، ومن خلال العيش المشترك لسائر الفئات فيه، والسوق الواحدة، يكوِّنُ أحاسيسَ ووعياً ومصالح بالانتماء المشترك إلى الدولة القائمة، دون أن يلغي الانتماءُ الكبيرُ الهويات الفرعية التي يحتضنها الاتحاد جميعاً من خلال المواطنة والمساواة أمام القانون.
وفي حالة دولة الإمارات اجتمع الأمران: الهوية التأسيسية، والدولة الاتحادية. لماذا صار موضوع الهوية مهماً وذا أَولوية؟ قام النظام الدولي المعاصر على الدول القومية. لكنّ الحربين العالميتين اللتين نشبتا بسبب العصبيات والنزاعات بين الكيانات القومية، أساءت إلى الفكرة القومية، وجرى التركيز على مفاهيم المواطنة والتعددية والتعايش والتسامح حتى لا تسود عصبيةٌ على أخرى ضمن الدولة والكيان.
بيد أنه في العقود الأخيرة عادت فكرة الهوية القومية إلى البروز باعتبارها مبرراً للخصوصية ولحفظ المصالح والحماية من الخارج. أما في المجال العربي والإسلامي فتطورت أيديولوجيات حزبية تشجع الظواهر الفصامية بقصْر الهوية على الدين أو على بعض الانتماءات الجهوية، وتقسم بذلك أحاسيس الناس ووعيهم بالداخل، وتُظهر العداءَ للعالم الخارجي باعتباره مهدِّداً للهوية الأصلية! وهناك دول عربية وإسلامية، ومن ضمنها دولة الإمارات، لا تُعاني من هذا الفصام المصطنع بين الهوية والانتماء، ولا التضارُب ضمن عناصر الهوية العميقة (اللغة والثقافة والتاريخ والعادات والأعراف والقيادة والموطن والكيان السياسي). إنما هناك مجتمعات ودول وبسبب الحزبيات المتصاعدة، ظهرت فيها الفصاميات فتراجعت فكرة المواطنة، كما تراجع الولاء للدولة لصالح التحزب للهويات الفرعية أو الشموليات.
ولذا يكون من الضروري للخروج من الفصاميات التأكيد على الهوية الوطنية العامة المتجسدة المتكونة في التاريخ والثقافة واللغة والعيش المشترك والمَوطن، ثم في المواطنة التي تشكّل عصب الدولة الحديثة، وتحمي التسامح والتعايش وحقوق الآخر وعيشه دونما إخلالٍ بعمود الخيمة ومرتكزاتها على الأرض. كتاب السويدي عن الهوية ينشر وعياً متجدداً بالهوية الوطنية في تأسيسها، وفي نموها بالتجربة الناجحة، وبالإنجازات المتكاثرة لصالح المواطنة والعيش المشترك وصنع المستقبل الزاهر.
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية