اختلف النّاس في الحياة وتنازعوا في الإقبال والإعراض عنها، فلا هُمْ ثبتوا لها على طبيعة واحدة، ولا هم أقبلوا عليها بطريقة واحدة، فمنهم من يحرص على الحياة، ومنهم من يحرص على حياة، ومنهم من يعمل جهده للخروج من الحياة، وبين هذا وهذا تبرز هذه الوضعية القلقة الوجودية التي يعيشها هذا الكائن الإنساني المحدود في الْهُنَا.
عرّف أرسطو الحياة بأنها عند الحيوان القدرة على الإحساس، وعند الإنسان القدرة على الإحساس والفكر، وفي القرآن الكريم أن طبيعة الإنسان مجبولة على حبّ الحياة، شلالا متدفقاً يخرج مما يستمتع به الإنسان من شهوات يستمرئها، من أشخاص وجودية، إحساسات ومشاعر أفكارا. واعتبر أرسطو الشعور بالحياة من بين اللّذات السّارة بذاتها، لأن الحياة بطبعها أمر جيد، والشعور بأن المرء يملك ما هو جيد هو شيء في حد ذاته لذيذ.
إن الحياة مطلوبة للجميع، لكن أي حياة؟ ميز الفلاسفة قديماً بين أنواع ثلاثة من الحياة، حياة اللذة، وحياة الكرامة، وحياة الفكر، فمن النّاس من يجد حياته في الاستمتاع باللّذات الجسمانية المختلفة، معتبراً أن الوجود قصير، واغتنامه اللذائذ هو الطريق الأنسب لحياة مفعمة بمشاعر قوية سارة تجعل الحياة ذات معنى. ومن النّاس من يعتقد أن الحياة في البحث عن مكانة بين الناس، تجعله يشعر بالافتخار أنه مطلوب ومرغوب فيه، وهذه الكرامة عند أرسطو يجدها المرء في الخيرات المادية التي يجمعها وتبوؤُه المكانة العليا عند الناس، وقد يجدها البعض في ترك الحياة ذاتها والتضحية بها من أجل الوطن، كما يصنع الجنود، وفي ذلك سرور عنده عظيم.
ومن النّاس من يذهب إلى أن الحياة في التّأمل في أحوال الدنيا وفي القضايا الشائكة التي يمور بها الوجود، فهناك تجد الحياة كمالها، فالحياة لا تكتمل إلا عند كمال الفكر، والفكر لا يكمل إلا في حياته بالتأمل ومطالعة الكتب والحوار بين الفضلاء والإقامة في المراكز العلمية، وهذا دَيْدن قادة الفكر عبر العصور وعند جميع الأمم. لكن الغريب، أن بعض الناس، يتبرمون من الحياة، إما لعلة نفسية، تجعل الملل الرفيق في كل حركة، كما يعرف ذلك مرضى الأرونيكسي، مما يجعلهم لا يطيقون الحياة فيجهدون في الخروج منها.
وإمّا لعلة جسمية نفسية، وأخيراً رأينا الخروج التراجيدي من الحياة لأكبر ممثل سينمائي في القرن العشرين في فرنسا، ألان دولون، بعد أن تكالبت عليه العلل، وقد عاش حياة، كما صرح بنفسه، لم يشته فيها شيئاً إلا أتاه، ولمّا لم يعد يجد في حياته ما يغريه بالبقاء فيها، اختار الموت الرحيم. وكثير من الناس أصبحوا يختارون هذا الموت، وكأن الحياة لم تعد خيراً بذاتها وإنما هي خير بأعراضها، فإذا ذهبت أعراضها ذهبت. وقد أصبح وباء الاكتئاب يحصد الأرواح بشكل مهول، وهو مرض يفسد النظر إلى الحياة، فيريها قاتمة وهي مبهجة، ويرى ذوقها مراً، وهو في ذاته لذيذ.
إن الحياة في ذاتها أمر لذيذ وحسن، وإنَّ بحث الناس عن إكسير الخلود لأكبر دليل على ذلك، وقديماً أوتي آدم عليه السلام من قبل نزعة الخلود: {قال ما نهاكما ربكما عن تلك الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} الأعراف:20، وملحمة جلجامش مغامرة في البحث عن الخلود، وهي تُعبِّر عن الأشواق العميقة للإنسان للبقاء الأبدي.
لكن لما أدرك الإنسان أن الحياة تتسلل من بين يديه خلسة وأنه لا محالة فاقدها، شرع في التصالح مع الموت، فكانت الفلسفة، كإبداع إنساني كبير، بلسم الجرح الكبير، الجرح الذي لا شفاء منه، جرح الخروج المحتَّم من الحياة.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.