في إطار معرض الشارقة الدولي للكتاب، تُطرح هذا العام قضايا فلسفية جوهرية تتناول الإشكالية الدائمة للعلاقة بين الأخلاق والروحانية، وما إذا كان بالإمكان أن تستقل الأخلاق عن الدين دون أن تفقد عمقها ومعناها الحقيقي. ويبرز هنا تساؤل محوري يُثير اهتمام الفلاسفة والمفكرين: هل يمكن أن تكون القيم الإنسانية كافية لبناء نظام أخلاقي مستقر، أم أن البعد الروحي يظل ضرورة لا غنى عنها لإضفاء المعنى والسمو على الأخلاق؟
تتنوع الرؤى حول هذه الإشكالية، إذ يذهب البعض إلى أن الأخلاق يمكن أن تستند إلى القيم الإنسانية وحدها دون حاجة إلى مرجعية روحية. هذا الرأي الذي يدعمه بعض الفلاسفة المعاصرين، يقوم على أن الأخلاق تهدف في المقام الأول إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتحقيق السلام بين الأفراد، وأنها قادرة على الارتقاء بالسلوك الإنساني استناداً إلى مبادئ مثل الاحترام والتعايش، بعيداً عن التوجيهات الروحية. وهم يرون أن الإنسان يمكن أن يبلغ درجة من الانسجام الداخلي والسعادة باتّباع قواعد سلوكية نابعة من طبيعة العلاقات الإنسانية والمجتمع، دون أن يكون للدين دور في ذلك.
لكن، على الجانب الآخر، يأتي نقد هذا التصور من منظور مختلف، إذ يرى آخرون أن الأخلاق من دون جذور روحية تصبح شكلية فارغة، تُفرغ من المعنى الحقيقي وتفقد قدرتها على تقديم دافع أسمى للإنسان. يُطرح هنا موقف يؤكد أن الأخلاق، حين تُفصل عن الدين، تفقد جانباً جوهرياً مِن رسالتها وتتراجع إلى مجرد مجموعة قواعد سطحية تفتقر إلى السمو الأخلاقي العميق. ومن هذا المنظور، تُعتبر الروحانية ضرورية للأخلاق، حيث تضفي عليها عمقاً ومعنىً يتجاوز مجرد حفظ النظام الاجتماعي، بل تسعى لتوجيه الإنسان نحو غايات أسمى.
في أحدث إصداراتي «جدلية الفلسفة والأخلاق» و«الحرية المستحيلة»، أتطرق إلى هذه النقاشات وأحاول استعراض بعض الرؤى الفلسفية المعاصرة التي تبحث في استقلالية الأخلاق وعلاقتها بالروحانية. من بين الفلاسفة الذين يتناولون هذا الموضوع، نجد لوك فيري الذي يرى أن الأخلاق يمكن أن تستند فقط إلى العقل والقيم الإنسانية دون الحاجة إلى الدين. وبالنسبة له، تُعتبر الأخلاق وسيلةً لتحقيق السلام والتعايش الاجتماعي، ويؤكد أن الإنسان قادر على تحقيق السعادة بالاعتماد على منظومة قيم إنسانية صرفة.
وفي المقابل، يعارض هذا الرأي طه عبد الرحمن، الذي يرى أن الأخلاق من دون بعد روحي تصبح مجرد قواعد فارغة، لا تسهم في تحقيق الخلاص أو السعادة العميقة. من هذا المنظور، فهو يرى أن الأخلاق الحقيقية تتطلب أساساً روحياً يؤسس لمعنى أسمى، ويعتبر أن هذا الفصل بين الأخلاق والدين يؤدي إلى بؤس الإنسان وفقدان المعنى الحقيقي للحياة.
كما أتناول في هذه الإصدارات الفلسفات الوضعية والدهرانية والوجودية التي تحاول كلٌّ منها بناء أخلاق على أسس علمية أو فردية بحتة. فالفلسفة الوضعية، على سبيل المثال، تسعى إلى إقامة الأخلاق على أسس علمية بعيدة عن الدين، حيث تعتمد على العقل والمنطق، بينما تركز الفلسفة الدهرانية على الحياة المادية وحدها وترفض الأبعاد الروحية. أما الفلسفة الوجودية فتؤكد على الفردانية، حيث تعتبر أن الأخلاق تُبنى على حرية الفرد ومسؤوليته الذاتية في تحديد قيمه، بعيداً عن قيود الدين أو المجتمع.
إن هذه الفلسفات، رغم أنها تقدم رؤى مثيرةً حول استقلالية الأخلاق، إلا أني أرى أنها حين تتجاهل البعد الروحي، تفقد جوهرَها الأعمق، وتصبح عرضة لتفسيرات فردية أو نفعية تُضعِف مِن قدرتها على الارتقاء بالإنسان. فالأخلاق، في نظري، لا يجب أن تُفصل عن الروحانية، لأنها تصبح حينذاك مجرد وسيلة لتنظيم المجتمع، تفتقر إلى الارتقاء الروحي الذي ينقل الإنسان من مستوى الضرورة الاجتماعية إلى أفق السمو الإنساني.
ويبقى التساؤل الذي أطرحه في هذا السياق: هل تستطيع القيم الإنسانية وحدها أن تقود الإنسان نحو السمو والسلام الداخلي، أم أن الروحانية والدين يظلان ضرورةً حتمية لضمان عمق الأخلاق وصدقها في حياة الإنسان؟

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة