بعد مرور أكثر من شهر على إطلاق عملية «سهام الشمال» الإسرائيلية في لبنان، تتضح الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية المتبعة من قبل الطرفين. يمتلك كل من «حزب الله» وإسرائيل قوة عسكرية كبيرة وأهدافاً استراتيجية متباينة، مما يجعل هذا الصراع معقداً ومتشابكاً في أبعاده العسكرية والسياسية والإنسانية، ولهذا ينبغي دراسة جوانب هذا الصراع، بما في ذلك تجهيزات الطرفين، وموازين القوى، وتأثيرات الصراع في المنطقة.

أولاً: التجهيزات العسكرية لكلا الطرفين

بالنسبة لاستعدادات «حزب الله»، فإنه منذ حرب تموز 2006، عمل «حزب الله» على تطوير ترسانة عسكرية ضخمة تتضمن آلاف الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، مثل «الكاتيوشا» و«الغراد»، وصواريخ بعيدة المدى، وصواريخ باليستية. واستثمر الحزب في بناء شبكة معقدة من الأنفاق على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، تتيح له تنفيذ تكتيكات الهجوم المباغت والانسحاب الآمن، إضافة إلى استخدامها كوسيلة لنقل الجنود والمعدات. وطوّر قدرات دفاع جوي تكتيكية، تضم صواريخ مضادة للطائرات، لكنها محدودة التأثير في ظل التفوق الجوي الإسرائيلي. ويعتمد الحزب أيضاً على طائرات مسيّرة إيرانية الصنع لتنفيذ هجمات تكتيكية تستهدف العمق الإسرائيلي.

وعن الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية، فإنه على مدار سنوات، طورت إسرائيل منظومة دفاع جوي متقدمة تشمل «القبة الحديدية» و«مقلاع داوود» و«حيتس»، مما يمنحها قدرات عالية على اعتراض الصواريخ، ويحدّ من تأثير الهجمات الصاروخية للحزب.     استثمر الجيش الإسرائيلي في تجهيز قوات مشاة مدربة بشكل خاص على الحرب في المناطق ذات التضاريس المعقدة. وتعد قوات النخبة الإسرائيلية والفرق الخاصة من أهم العناصر في العمليات البرية في لبنان. قامت إسرائيل ببناء بنية تحتية متقدمة من حيث المراقبة والرصد الإلكتروني، واعتمدت على الرصد المستمر لأنشطة الحزب، إضافة إلى استخدام الضربات الجوية الاستباقية التي تهدف إلى تدمير مخازن الأسلحة ومواقع القيادة والسيطرة في لبنان وسوريا.

ثانياً: الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية للطرفين

 تعتمد استراتيجية «حزب الله» على توجيه ضربات موجعة وقصيرة الأمد لتحقيق خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية وإحداث ضغط نفسي على المجتمع الإسرائيلي. ويستخدم الحزب تكتيك «حرب العصابات» عبر شن هجمات مباغتة على نقاط متعددة، وتهدف هذه الاستراتيجية إلى إرغام إسرائيل على التراجع ووقف القتال. ويتبع الحزب استراتيجية ردع مزدوجة من خلال استهداف المدن الإسرائيلية بالصواريخ واستهداف السفن البحرية، على أمل تقليل قدرة إسرائيل على الاستمرار في القتال لفترة طويلة.  

  أما إسرائيل، فقد اعتمدت استراتيجية هجومية مغايرة تستند إلى «الأرض المحروقة» عبر شن هجمات جوية وبرية مكثفة، تهدف إلى إنهاك قوات الحزب وتدمير مواقعه الحيوية. تسعى إسرائيل إلى تقليل الخسائر عبر استباق هجمات الحزب، حيث تعتمد على المشاة والقوات الخاصة بدلاً من المدرعات الثقيلة التي تعرضت لخسائر في الحروب السابقة، وتستخدم إسرائيل منظومة دفاعها الجوي لاعتراض الصواريخ وتقليل الأضرار على الجبهة الداخلية، مما يحدّ من قدرة الحزب على إحداث تأثير فعّال على الجبهة الإسرائيلية.

ثالثاً: موازين القوى العسكرية بين الطرفين

التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، حيث تتميز إسرائيل بتفوقها التكنولوجي الذي يمنحها قدرات عالية في مجال الدفاع الجوي، والرصد الإلكتروني، ونظم القيادة والسيطرة المتقدمة، وتمتلك إسرائيل طائرات حربية متطورة وطائرات مسيرة، تمكنها من القيام بمهام استطلاعية وهجومية بفعالية كبيرة. ويعد هذا التفوق الجوي عاملاً حاسماً في إضعاف قدرات حزب الله الدفاعية. في المقابل هناك تفوق عددي لـ«حزب الله»، فرغم التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، يمتلك «حزب الله» ميزات أخرى، منها خبرة مقاتليه في التضاريس الوعرة وشبكة الأنفاق التي تشكل درعاً له، وتتيح له شن هجمات على القوات الإسرائيلية على جبهات عدة. ويعد الاعتماد على تكتيك الكمائن واستغلال التضاريس الطبيعية في جنوب لبنان من أهم عناصر القوة التكتيكية للحزب، إلا أن هذه القوة محدودة بتعرضه للضربات الجوية الإسرائيلية.

رابعاً: الأبعاد السياسية والدولية للصراع

الموقف الأميركي الدعم لإسرائيل، حيث تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكل كبير في هذا الصراع، سواء من الناحية العسكرية أو الدبلوماسية. وقدمت واشنطن لإسرائيل دعماً مادياً مكّنها من بناء منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات، بالإضافة إلى تزويدها بالأسلحة المتطورة. ويعزز هذا الدعم موقف إسرائيل في وجه «حزب الله» ويمنحها القدرة على الاستمرار في العمليات الحربية لفترة أطول، مما يضع الحزب في موقف صعب على المدى الطويل. وهناك تحديات يواجهها «حزب الله» على الصعيد الإقليمي، حيث يجد الحزب نفسه في وضع حرج، كونه يواجه عزلة متزايدة على المستوى العربي، بالإضافة إلى ضغوط اقتصادية وسياسية داخلية في لبنان، تزيد من صعوبة الاستمرار في الصراع لفترة طويلة، كما يتطلب الصراع دعماً مالياً وعسكرياً كبيراً، مما يزيد من الاعتماد على إيران كمصدر رئيسي للتمويل والتسليح، إلا أن الضغوطات الدولية على طهران قد تحدّ من قدرتها على تقديم الدعم الكافي للحزب.

خامساً: التأثيرات الاجتماعية والإنسانية للصراع

    في لبنان يعيش المدنيون حالة من القلق والخوف نتيجة التصعيد العسكري على الحدود، حيث اضطر العديد من السكان إلى النزوح من المناطق الجنوبية. ويواجه لبنان تحديات كبيرة في تأمين المساعدات الإنسانية وتلبية احتياجات النازحين، مما يضيف عبئاً إضافياً على الاقتصاد اللبناني المتأزم أصلاً. وفي إسرائيل تزداد حالة القلق في الداخل، خاصة في المناطق الحدودية التي تتعرض لهجمات صاروخية من حين لآخر. ورغم نجاح منظومة الدفاع الجوي في تقليل الأضرار، فإن استمرار القصف يسبب حالة من الضغط النفسي والاجتماعي.

يبقى الصراع بين «حزب الله» وإسرائيل معقداً بسبب الأبعاد العسكرية والسياسية والاجتماعية المتشابكة. فبينما يمتلك كل طرف نقاط قوة وضعف، يواجه كل منهما تحديات كبيرة تتطلب استراتيجيات مرنة وتكيّفاً مستمراً مع الواقع المتغير. ومع استمرار هذا الصراع، يبقى الوضع الإنساني المتدهور والتحديات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وإسرائيل من أهم العوامل التي تضغط على الطرفين للوصول إلى حل سياسي يضع حداً لهذا الصراع الطويل.

* لواء ركن طيار متقاعد