بينما يستعد مسؤولو مجلس الاحتياطي الفيدرالي لبدء اجتماع السياسات يوم الأربعاء المقبل، الذي سيستمر يومين، فإنه يتعين عليهم تذكر ما حدث عندما أصبح صانعو السياسات في العقود الماضية واثقين للغاية في استخدام تدابير إدارة الطلب لـ«ضبط» الاقتصاد بدقة. والدرس المستفاد في أكثر من مناسبة هو أنه - بصرف النظر عن تهديدات التضخم المرتفع من جانب وركود الاقتصاد أو انهيار الميزانيات العمومية من الجانب الآخر - من الأفضل الحفاظ على توجه سياسي ثابت بدلاً من الرد على كل جزئية من البيانات المتاحة.
لقد حان الوقت لكي يستوعب الاحتياطي الفيدرالي هذا الدرس، وإن كان متأخراً. في نهاية القرن العشرين، أصبح صنُاع السياسات أكثر ثقة في إمكانية استخدام السياسات المالية والنقدية لتحقيق «اعتدال كبير» في الاقتصاد. وذهب البعض إلى حد الإيحاء بأنهم «تغلبوا على الدورة الاقتصادية».
وفي جذور هذه الثقة المفرطة في «ضبط الاقتصاد» وهو ما حدث أيضاً قبل عقدين من الزمان كان هناك سوء فهم للرؤى المبتكرة التي طرحها «جون ماينارد كينز» حول كيفية عمل جانب الطلب في الاقتصاد، والتي تم تلخيصها على أفضل نحو في كتابه «النظرية العامة للتشغيل وأسعار الفائدة والمال» الصادر عام 1936. لكن تم تبسيط رؤى كينز النقدية إلى حد مبالغ فيه.
ومرة أخرى، تعرض هذا النهج للتفكك بسبب سلسلة من الأحداث المزعزعة، التي كان بعضها ناجماً عن الافتقار إلى التواضع. كان البديل لصنع السياسات هو استبدال الثقة المفرطة في الضبط الدقيق القائم على بيانات عالية التردد، بتفضيل المواقف السياسية الثابتة والمستدامة. وكان هذا مصحوباً بتأكيد أكبر على جانب العرض من الاقتصاد، وخاصة العوامل التي تؤثر على الإنتاجية والاستثمار والنمو. والاستثناء الصحيح كان في الحالات القصوى من التوزيع المحتمل للنتائج الاقتصادية، سواء كان ذلك لمواجهة ارتفاعات التضخم أو لتجنب حالات الركود والانهيار الناجمة عن تقليص فوضوي للميزانيات العمومية للقطاع الخاص. بعد خطأ سياسته في عام 2021 بتوصيف التضخم على أنه «مؤقت»، يبدو أن «الاحتياطي الفيدرالي» لم يستوعب هذا الدرس.
فقد أدى هوسه بالاعتماد على البيانات إلى الإفراط في رد الفعل تجاه بيانات تاريخية متقلبة، مما جعله يفتقر إلى نهج استراتيجي أكثر استباقية، وهذا ما يحتاجه عند استخدام أدوات السياسة التي تعمل مع «تأخيرات طويلة ومتغيرة». وأصبحت التقلبات السياسية الناتجة، سواء في التدابير الفعلية أو التوجيهات المستقبلية، ملحوظة للغاية في الأشهر الاثني عشر الماضية، مما أدى إلى تقلبات جامحة في توقعات السوق لأسعار السياسة وعائدات السندات ذات الصلة التي تعمل كمعايير للعديد من الأدوات المالية في الولايات المتحدة وخارجها.
ولنتأمل ما يلي؛ فقد قد رأى «الفيدرالي» عدم الحاجة إلى خفض أسعار الفائدة في نهاية يوليو، لكنه قرر القيام بذلك بخفض كبير غير اعتيادي بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماعه التالي في منتصف سبتمبر، مما خفض النطاق المستهدف لسعر الفائدة الفيدرالي إلى 4.75% - 5% من نطاق 5.25% - 5.50%. تم نقل نية «التخفيض الكبير» بدلاً من تأكيد الـ25 نقطة أساس التي توقعها السوق في ذلك الوقت، عبر «تسريبات» غير اعتيادية في وسائل الإعلام خلال فترة التعتيم التي سبقت الاجتماع. وإضافة إلى الارتباك، قوبلت زيادة حجم التخفيض بزيادة لاحقة في عائدات سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات بأكثر من 70 نقطة أساس، الأمر الذي دفع عدداً من مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التراجع عن القرار الذي اتخذوه.
كانت ردود فعل السوق مجرد واحدة من العديد من التحركات الجامحة. وشملت التحركات الأخرى الانخفاض الحاد في توقعات خفض آخر كبير بمقدار 50 نقطة أساس من الفيدرالي، من 60% إلى صفر في الفترة التي استمرت أسبوعين حتى 4 أكتوبر. كما شهدنا تغييراً كبيراً في تقييم السوق لسعر الفائدة النهائي على الأموال الفيدرالية في دورة التخفيض هذه. انخفض احتمال الوصول إلى أقل من 3.25% بحلول يونيو 2025 من حوالي 80% إلى الصفر. ولحسن الحظ، كانت القوة الأساسية للاقتصاد الأميركي، والتي يشار إليها غالباً باسم «الاستثنائية الاقتصادية»، بمثابة درع فعال ضد التأثيرات الضارة المحتملة لمثل هذه السياسة وتقلبات السوق. ولكن هذا ليس سبباً للاستمرار على هذا المسار، وخاصة في ضوء حالة عدم اليقين التي تواجه آفاق السياسة المالية والتجارية والتنظيمية والصناعية في البلاد.
نحتاج إلى أمرين من الفيدرالي، ويمكنه البدء بذلك هذا الأسبوع. الأول هو يد أكثر ثباتاً على عجلة القيادة، مع اتفاق معظم الناس على أنه لا يزال هناك مجال للوصول إلى «معدل فائدة محايد»، سيكون من الحكمة أن يشير بنك «الاحتياطي الفيدرالي» إلى وتيرة ثابتة من التخفيضات بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماعاته القليلة المقبلة. ثانياً، في تقييمه للسياسات والنتائج الاقتصادية، يجب أن يعترف بنك «الاحتياطي الفيدرالي» بأنه، بعد سنوات من هيمنته على المشهد السياسي («الوحيد على الساحة» في السياسة)، حان الوقت لإفساح المجال لصانعي سياسات آخرين. في الواقع، ستعتمد النظرة المستقبلية للاقتصاد الأميركي من هنا فصاعداً بشكل أكبر على ما يحدث في أماكن أخرى من العالم، خاصة بعد الانتخابات.
«امتلاك الكثير من الشيء الجيد»، وهي العبارة التي قيل إنها استُخدمت لأول مرة في مسرحية شكسبير «كما تحب»، تعكس الدرس الاقتصادي المهم الذي تعلمناه في العقود الماضية عندما أصبح صناع السياسات واثقين بشكل مفرط في قدرتهم على «ضبط» جانب الطلب في الاقتصاد. ومن الأهمية بمكان أن لا يغفل بنك الاحتياطي الفيدرالي عن هذا الدرس.
د.محمد العريان*
*رئيس كلية كوينز في كامبريدج، والمستشار الاقتصادي الرئيسي في أليانز إس إي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»