الاهتمام والترقب والتوقّعات تكرّس الانتخابات الرئاسية الأميركية شأناً عالمياً، وتعني أن لأميركا دوراً قيادياً رغم كل ما يُقال ويُكتب عن أفول قوتها ونفوذها، وإلا ما كان لاختيار رئيسها أن يحظى بهذه المواكبة السياسية والإعلامية، كما لو أنه حدثٌ داخلي في معظم أنحاء «القرية الكونية». هناك حروب مشتعلة ونزاعات مزمنة وأخرى قابلة للانفجار، أزمات اقتصادية وصراعات جيو- سياسية، ومنافسات تكنولوجية وعسكرية وتجارية.. وكلّ ذلك يرتبط بالسياسات والخيارات التي يتّبعها ساكن البيت الأبيض. أوروبا، وبالأخصّ أوكرانيا، تنتظر.. وكذلك الشرق الأوسط، وبالأخص غزّة ولبنان.. فلكلٍّ من المرشحَين الحاليين توجهات مختلفة للتعامل مع هذه النزاعات الساخنة، تراوح بين إنهاء الحروب واستمرارها.
المفارقة الدائمة هي أن الأميركيين أنفسهم، وعلى اختلاف انتماءاتهم، يعتبرون الانتخابات شأناً داخلياً يتعلّق أولاً وأخيراً بشؤونهم الحياتية، وبالاقتصاد كأولوية ثابتة وكل ما يؤثّر فيه، كقضايا الهجرة والأمن وانخراط أميركا في الحروب.. لكن تصويتهم يساهم في صنع السياسة الخارجية التي لم تغب هذه المرّة عن النقاشات والمشهد الانتخابي. ويَفترض كثيرون أن تصويت الأقليات قد ينعكس على النتائج. لذا عبّرت بلدان عديدة قبل الحملات الانتخابية وخلالها عن مفاضلة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومرشّحَيهما، ولم يخفِ رؤساء وحكومات في أوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط ميلهم إلى كمالا هاريس أو دونالد ترامب، كما أصبح من التقاليد أن تحصل محاولات سيبرانية للتدخّل في «داتا» الحملات، وفقاً لتحذيرات الـ«أف بي آي» التي أكدت في وقائع سابقة أن التمنيات الخارجية لم تؤثر في نتائج الاقتراع.
ورغم أن هذه الانتخابات الأولى التي تُجرى وسط التقدم المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، في مختلف المجالات، فإن حضوره فيها اتسم خصوصاً بعمليات تضليل بالصور والنصوص الملفّقة، وكان بعضها «غبياً» ومكشوفَ الهدف وبعضٌ آخر كان موجّهاً إلى الشباب غير أن «تذاكيه» لم يحقق أغراضه. ظلّ اختراق العملية الانتخابية عبر هذا الذكاء محدوداً، لكنه سيتطوّر ويتوسّع في الاستحقاقات المقبلة، فيما يحتدم النقاش حول إيجابياته وسلبياته، بحسب مَن يوظّفها ويتلاعب بها. وتكمن المخاوف حالياً في انعكاساته على الديمقراطية كمفاهيم وممارسة، وهذه كانت محوراً رئيسياً لحملة جو بايدن عام 2020، وقد ظلّت بارزةً في حملة نائبته هاريس، للإشارة إلى أن منافسها ترامب يميل إلى «السلطة المطلقة». وفي هذا السياق، تلفت تحليلات عدَّةٌ إلى ظاهرة حفاظ المرشح «الجمهوري» على شعبية ثابتة وقوية وعدم اهتمام أنصاره أو تأثّرهم بالتحذيرات من أن في نهجه السياسي ما يشكل «خطراً» على الديمقراطية والحريات.
أكثر ما يقلق في هذه الانتخابات أنها في الدورتين الأخيرتين تحديداً باتت مسرحاً لتعميق الانقسامات بين أنصار الحزبين الرئيسيين، سواء بازدياد بروز نزعات عنصرية كان يُعتقد أنها عولجت بالقانون، أو حتى بالميل إلى العنف، إذ لم تتخطَّ أميركا كلياً بعدُ (ومعها بعض العالَم) صدمةَ الهجوم على مبنى الكونغرس خلال انعقاد مجلسيه مطلع العام 2021 للمصادقة على انتخاب بايدن رئيساً، وكانت الرسالة آنذاك رفض ترامب نتيجة الاقتراع رغم وضوحها، وهو ما قد يتكرر مع توقعات بأن تأتي النتائج متقاربة جداً.
أما بالنسبة للأطراف الخارجية وتفضيلاتها فعدا أنها طبيعية، هناك أيضاً ما يبررها في سياسات واشنطن نفسها، إذ لا ثوابت فيها إلا «المصالح الأميركية» التي غالباً ما تتناقض مع المصالح الوطنية لدول وشعوب عديدة. غير أن ثمة مسارات دولية أخرى آخذة في التخلّق لتتيح مسالك متنوّعة للمصالح، إمّا بالتوافق مع الولايات المتحدة أياً تكن إدارتها، أو عبر التكتلات الجديدة مثل «بريكس» وغيرها.