تنعقد في العاصمة الأذربيجانية باكو قمة عالمية تجمع قادةَ الأديان والزعامات الروحية من مختلف أصقاع الأرض، ضمن فعاليات مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين، وتحت شعار يحمل نداءً للبشرية جمعاء: «أديان العالم من أجل كوكب أخضر». في الخامس والسادس من نوفمبر، يتخذ هذا اللقاء بُعداً فريداً، فهو لا يجمع فقط بين علماء البيئة والمختصين، بل يتجاوزهم ليحتضن قادة الأديان، منطلقاً من ضرورة مواجهة التغيرات البيئية والأزمات المناخية التي تهدد الحياة على كوكب الأرض، في خطوة تُظهر الحاجةَ الملحة إلى التضافر بين البعد الروحي والقرار السياسي.
إن هذا اللقاء يأتي في وقت يشهد فيه كوكبنا تدهوراً بيئياً لا سابق له، حيث تتفاقم أزمة المناخ وتتعاظم تأثيراتها على المجتمعات، خصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً، ممن يعانون آثارها المباشرة في حياتهم ومعيشتهم. وهنا، تتضح الحاجة إلى نهج جديد يشمل البعدَ الروحي، فالأديان قادرة على إعادة توجيه السلوك البشري، إذ لم تكن الأديان يوماً مجرد نظم عقائدية، بل هي أسس تحمل القيم العميقة التي تُعزز الاحترام نحو الطبيعة، وتحمي الأرض مِن الإسراف والاستغلال المفرط.
ولطالما دعت الديانات الكبرى، السماوية منها وغير السماوية، إلى التوازن بين الإنسان والطبيعة، إذ ينظر الدين إلى الكون باعتباره أمانة، ويحث معتنقيه على الحفاظ عليه وتجنّب الإساءة إليه. وهو المعنى الذي تشير إليه الآية الكريمة «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا»، كما تُؤكّد الديانات الأخرى على قيم الاعتدال وحماية الحياة الطبيعية، ما يمنح القادة الروحيين أرضيةً مشتركةً يمكن من خلالها إطلاق خطاب جديد يحمل رسالة التغيير الأخلاقي تجاه البيئة.
في قمة باكو، تأتي هذه الرسائل، لتؤكد أن الأديان تملك تأثيراً فريداً في تشكيل السلوك الجمعي، وتأطير الرؤية البيئية ضمن منظومة قيمية تتجاوز المصالح الضيقة، فإشراك الخطاب الديني في النقاشات المناخية العالمية قد يساهم في إحداث تغيير جذري، ذلك لأن الأديان تغرس في قلوب المؤمنين شعوراً بالمسؤولية تجاه الأرض، مسؤولية قد تكون أقوى من أي اتفاقية دولية أو تشريع قانوني. وهنا، يُمكن للقادة الدينيين أن يكونوا جسوراً بين صنّاع القرار والمجتمعات، حيث يؤثرون بفعالية في صياغة سياسات بيئية تأخذ في الحسبان أبعاداً ثقافية وروحية تُعزز الوعي البيئي، وتجعل مِن قضية البيئة قضيةً أخلاقية.
ومن هذا المنطلق، يمثل تعاون قادة الأديان وصنّاع القرار السياسي محوراً لا غنى عنه للوصول إلى أهداف التنمية المستدامة. فالخطاب الديني يُبث في قلوب الناس وعقولهم بطرق عميقة، وقد أثبتت التجارب أن التوجيهات الروحية تسهم في تشكيل وعي عميق حول أهمية الحفاظ على موارد الطبيعة وتجنب التلوث. إنَّ تفعيل هذا الدور في الأزمات البيئية سيُعزز الالتزام الجماعي، ويحشد الدعم الشعبي لمبادرات الاستدامة البيئية.
وتسعى قمة باكو إلى بناء إطار عالمي لحماية البيئة، وترسيخ «التضامن البيئي» كقيمة إنسانية تجمع بين مختلف الثقافات والأديان، مما يمهّد لإشراك القيادات الدينية في مواجهة الأزمات البيئية والتحديات الإنسانية، ليُصبح تفاعلهم مع تلك الأحداث جزءاً مِن واجبهم الديني والأخلاقي.
ومع أن قادة الأديان يجتمعون في باكو بنية تعزيز الاستدامة، فإن التساؤل الذي يبقى قائماً هو: هل ستُكلل هذه الجهود بنجاح في ظل تحديات العصر؟ وهل ستستطيع التكنولوجيا الحديثة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، أن تسهم بشكل فاعل في تحقيق الاستدامة دون أن تكون هي نفسها عبئاً إضافياً على البيئة؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تضعنا أمام مسؤولية البحث عن توازن جديد بين الروح والتكنولوجيا، بين التطور واحترام موارد الطبيعة، علّنا نجد في هذا اللقاء بداية لتصحيح المسار نحو كوكب أكثر خضرة وسلاماً، يجمع بين العلم والإيمان في سبيل مستقبل الأرض وأجيالها القادمة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة