تصدر الكُتب والبحوث والمقالات بكثرة، ما يلامس السّطح مِن تاريخ السّياسة، اعتماداً على المرئي والمسموع، وثبت الحوادث الظّاهرة، لكنّ النَّادر ما وصل إلى جواهر الوقائع، التي تمارس بنوايا لا صِلة لها بالمشهور، فشكلت تاريخاً موازياً للتاريخ الرَّسميّ.
أجد في كتاب الباحث الإيراني آراش رايزنجاد «شيعة إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان»، الصَّادر (2018-2019) عن «بالجريف ماكميلان»، مِن النَّوادر التي كشفت الوقائع، فالباحث لم يكثر مِن التّنظير، إلا ما وجب، إنما اِعتمد المظان الأُصول، مِن أفواه وأقلام صُناعها، درس السياسة الإيرانيَّة في عهد الشّاه محمد رضا بلهويّ(1941-1979)، متناولاً منها موضوع السّياسة الخارجية الإيرانية غير الرّسميَّة بالعِراق ولبنان.
اعتمد رايزنجاد، وثائق الأرشيف الإيرانيّ، والأميركي، وأرشيف «السَّافاك» جهاز المخابرات الإيراني آنذاك، عندما جعل الشَّاه إدارة السِّياسة الخارجية غير الرّسميَّة بيد السَّفاك، بما هو أقوى مِن وزارة الخارجية نفسها.
بحث في أرشيف العلاقات الإيرانيّة العراقيّة، ما يخص الأحزاب الكردية العراقية، وما وثقته جامعة هارفارد، ومذكرات قادة الدبلوماسية الإيرانية ببيروت وبغداد، وضباط «السَّافاك»، الذين كانوا يديرون السياسة غير الرسمية؛ ناهيك عن التاريخ الشفاهِيِّ، بمقابلات الفاعلين في تلك الفترة.
كان الكتاب بمجمله، قصة تلك السِّياسة حتَّى الثورة الإيرانيَّة (1979)؛ كيف أصبح مؤسس جهاز السَّافاك ثائراً ضد الشّاه، ويتحرك بين العواصم للثورة داخل إيران ضد مليكه، حتَّى مصرعه على يد الجهاز الذي أنشأه.
تظهر عادةً سياسة الدوُّل الرّسميَّة مِن بياناتها ومواقفها؛ ويمكن القول إنَّها سياسة مرئية، إلا أنَّ السِّياسة غير رسميَّة، بالضّرورة تكون مخفية، وتمارس بالعكس تماماً مِن الرّسميَّة، تعتمد، حسب ما قدمه مؤلف الكتاب، بأسلوب رائع، على جماعات خارجيَّة، لا تبدو الحكومة تخصهم باهتمام في سياساتها الرّسميَّة، والمقصود أكراد العِراق، وشيعة لبنان. تُظهر الأكراد والشِّيعة أنَّ ما يُقدم إليهما مِن دعم بلا مقابل؛ فلا يبدوان أنهما مُستَغَلان لأجندة من أستغلهما، بينما الحقيقة مخالفة لِما تدعيه تلك السّياسة، فالأكراد والشّيعة مجرد لعبتين.
كان شاه إيران مأخوذاً بما يسميه بالخطر الأحمر، خشية مِن تحرك يساري مسنوداً مِن موسكو، وقد تصاعد هذا الشعور بعد تسلم اليسار السلطة بإفغانستان(1978)، ومع أنه لم يكن على عرشه، عندما دخل الاتحاد السُّوفييتي أفغانستان(1979)، إلا أن ما حصل كان هاجسه الأول، فربَما تكون إيران بعد أفغانستان، حتَّى دفعه هاجسه إلى اعتبار رجال الدّين الثوريين شيوعيين أيضاً.
كان الشاه يرى في التفوق العسكري وحده؛ حماية لسلامة عرشه وبلاده، فلم يعر للثقافة والتطور الاجتماعي اهتماماً، وقد أسكت الملكة فرح عندما طرحت فكرة الاهتمام بالثَّقافة، قال: «هذا ليس من شأنكِ، في حين كنا فخورين بحقّ ثقافة إيران، كانت أراضي إيران مُحتلة مِن قِبل الحلفاء». كان يعتبر الثَّقافة طريقَ الشيوعيين إلى السلطة، مؤكداً: «سوف ينتصر المثقفون على العالم، دون خلق عالم أفضل، لأنّه عندما يدمرونه، يستولي الشّيوعيون عليه». فالتحديث الذي كان يفهمه شاه إيران هو «التنمية العسكرية».
عانى العِراق، ولبنان أيضاً، مِن السياسة الخارجية غير الرَّسمية الإيرانيَّة، في ذلك العهد، فإذا اُستخدم أكراد العراق ضد بغداد، فلم يفلحوا إلا بالمصائب عندما صارت كردستان ساحة لتضارب المصالح بين الدّول، وإذا كان مجيء موسى الصّدر(اختفى: 1978) إلى لبنان، هدفه «تقدم الشّيعة»، كانت السَّافاك تحاول جعل الشَّيعة جزءاً مِن إيران، والشّاه هو حامي الشِّيعة بالعالم، انطلاقاً مِن لبنان، والصَّدر يمتنع.
تجد في قصة السِّياسة الخارجية الإيرانيّة غير الرسميَّة التوأمين: «عاشوراء والنَّيرُوز»، يربط بهذين الهلالين، والتسمية لآراش، الشّيعة والأكراد، ولا نظن أنَّ الأمرَ قد تغير، ففي سياسات الدول الرّسميّة الوضوح، وفي غير الرّسميّة المخفي، وهو الأخطر، فلا قيود ولا التزامات.
*كاتب عراقي