كانت مقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا تميل إلى الحزب الجمهوري ذات مرحلة. وفي عام 2000، فاز فيها جورج دبليو بوش بفارق 1.4 نقطة.
لكن بحلول 2020، فاز فيها الديمقراطي جو بايدن بهامش بلغ 42 نقطة. هذا التحول الدراماتيكي في إحدى أغنى مقاطعات البلاد يشير إلى عملية إعادة تشكيل أعمق للهوية السياسية الأميركية، وهي عملية يحدد فيها التعليمُ، وليس مستوى الدخل، الولاءَ الحزبي. ومع تزايد عدد السكان الذين تلقوا تعليماً جامعياً في المقاطعة، والذين بلغت نسبتهم أكثر من 60% بحلول عام 2020، ارتفعت نسبة أصوات الديمقراطيين. وربما يمثل تراجعُ أهمية الانتماء الطبقي التحولَ السياسيَّ الأهمَّ خلال القرن الماضي في الولايات المتحدة، مما أدى إلى تغيير طبيعة الانقسام الحزبي في هذا الأثناء. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 2012، كان البيض من بين الـ5% الأعلى من أصحاب الدخل هم الأكثر ميلاً للتصويت للجمهوريين.
لكن الأمر لم يعد كذلك حالياً، إذ أصبحت نسبة الـ5% الأعلى دخلاً هي الأقل ميلاً للتصويت للجمهوريين. والواقع أن عدد الأميركيين الحاصلين على درجة البكالوريوس ارتفع بشكل مطرد من 6% عام 1950 إلى 38% حالياً.
والتعليم العالي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمواقف الليبرالية. وعلى سبيل المثال فإن 69% من خريجي الجامعات يعارضون منع الإجهاض، مقارنةً بـ47% فقط من غير الحاصلين على شهادة جامعية. بل إن الانقسامات يمكن أن تكون قوية حتى بين الديمقراطيين أنفسهم: ذلك أن 44% من غير الحاصلين على درجة البكالوريوس يعتقدون أن أميركا هي «أعظم دولة في العالم»، في حين أن 25% فقط من الديمقراطيين الحاصلين على شهادات يقولون الشيءَ نفسَه. ومع ازدياد عدد الأشخاص الذين يرتقون اجتماعياً وعدد المتعلمين تعليماً عالياً في الحزب الديمقراطي، وتأثر الحزب بحساسياتهم، أصبح الحزب أكثر تقدميةً من الناحية الاجتماعية وأضحى أكثر ميلاً إلى تعريف نفسه عبر الاهتمامات الثقافية وليس الطبقية.
وهذا الأمر يوسّع الفجوةَ القيمية بين الحزبين، إذ يتقدم حزبٌ بينما يراوح الآخرُ مكانَه إلى حد كبير. وهناك جدل مستمر حول ما إن كان التعليم يمكن أن يحفِّز مثل هذه التحولات وكيفية حدوث ذلك. وفي هذا الصدد، تتبعتْ إحدى الدراسات المبتكرة كل اثنين من الإخوة أحدهما تلقى تعليماً جامعياً، ووجدت أن الشهادة الجامعية جعلت مواقفهما ليبراليةً أو أكثرَ ليبراليةً في ما يتعلق بمسائل التسامح والمساواة. وقد تزامن هذا الاستقطاب التعليمي مع تحول ثانٍ عميق في الخيال السياسي الليبرالي.
فالليبرالية الاجتماعية بين الديمقراطيين جعلتهم أكثر تشككاً في دور الدين في الحياة العامة. وهذا أيضاً أمر جديد نسبياً، إذ حدث معظمه خلال العقدين الماضيين. إن هذه التحولات التعليمية تَعني أن المجموعتين الثقافيتين الكبيرتين من الأميركيين، أي المحافظين والليبراليين، الجمهوريين والديمقراطيين، أخذتا توجّهان حياتَهما بشكل متزايد في اتجاهات مختلفة. صحيح أن الاختلاف لا يمثّل بالضرورة مشكلةً يجب حلها، إذ لطالما استمدت أميركا قوتَها من تنوعها الفوضوي. لكنه يغدو مشكلة حينما تفقد المجموعات المتنافسة قدرتها على التحدث والتصرف بطرق مفهومة للآخر.
ولهذا، سيتعين على الديمقراطيين ليس فقط أن يحدِثوا تغييراً في النبرة، ولكن أيضاً أن يُظهروا للأميركيين على طرفي الحرب الثقافية أنهم جادون حقاً. وذلك بإعطاء الأولوية لبرامج التدريب المهني بدلاً من تخفيف عبء الديون الجامعية، والذي يستفيد منه الأثرياء بشكل غير متناسب. كما يمكنهم تجديد جهود التواصل مع المسيحيين المتدينين، وتعزيز الحوافز المالية المشجعة للأسرة لمواجهة الانخفاض الخطير في معدل المواليد، والدفاع عن الحرية الدينية، حتى وإن كان ذلك يعني الدفاع عن حق المحافظين الدينيين في العيش وفقاً لقيمهم الخاصة. وبالطبع، يمكن أن يختلف الأشخاص العقلاء حول تفاصيل السياسات، لكن التحدي العام يظل قائماً. فالحزب الديمقراطي لا يمكن أن يُنظر إليه كحزب للأميركيين العلمانيين والمتعلمين تعليماً عالياً فقط. ولا شك في أن تغيير هذه التصورات سيستغرق بعضَ الوقت، لأن لها جذوراً في الواقع، جزئياً على الأقل.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسيند آند سيندكيشن»
*كاتب وأكاديمي أميركي