في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة، والتحولات الاقتصادية السريعة التي تعيشها المنطقة العربية، تجد الدول العربية نفسها وسط مرحلة دقيقة مملوءة بالتحديات المُركبة، التي تفرض على الحكومات وصنَّاع القرار الاستعداد لمستقبل اقتصادي وسياسي مُختلف، فقد تحولت المنطقة ميدانًا لتنافس وصراعات القوى الكبرى والإقليمية التي تسعى إلى مزيد من الهيمنة والنفوذ، وأصبح من المسلَّم به أن الصراعات الجيوسياسية في المنطقة العربية لم تَعُد تحدث بمعزل عن التغيرات الكبيرة في الأسواق العالمية، إذ توجَد علاقة تبادلية بين الصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية، فكل منهما تؤثر في الأخرى، ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً، بل يضع استقرار بعض الدول على المحك.

ويشير العديد من التقارير الدولية إلى حجم التحديات الاقتصادية التي تواجهها المنطقة، فوفقاً لتوقعات خبراء الاقتصاد، قد تشهد أسعار النفط زيادة بنسبة 30 في المئة على المعدلات المتوقعة إذا ما تفاقمت الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، ذلك أن أي تصعيد في مناطق الإنتاج الرئيسية للنفط سيؤدي إلى ارتفاعات كبيرة في تكاليف الإنتاج العالمية، وبالتبعية أسعار السلع الأساسية، كما سيؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية التي يواجهها العالم اليوم. ومع استمرار الصراعات، فإن مثل هذا الارتفاع سيؤدي إلى تقليص النمو العالمي ما بين 0.2 و0.3 نقطة مئوية في الأقل (أي نحو 200 مليار دولار)، في مؤشر واضح إلى مدى ارتباط المخاطر الجيوسياسية بالتقلبات الاقتصادية العالمية.

وعلى الرغم من أن الانخفاض قد يبدو صغيراً نسبيّاً، فإن تأثيره التراكمي يتجاوز القيمة المالية المباشرة، لأنه يحُدِث تغييراً ملموساً في أوضاع بعض الدول النامية، والقطاعات الاقتصادية الأكثر ضعفاً، خاصة فيما يتعلق بفقدان الوظائف، وتقليص الاستثمارات، وتعميق التفاوتات الاقتصادية. وتوقَّع تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، صدر في يوليو الماضي، أن يستقر النمو العالمي عند نحو 3.2 في المئة، مقارنة بـ2.8 في المئة عام 2023.

وبرغم توقعات انخفاض التضخم العالمي إلى 4.8 في المئة عام 2024، فإن هذا الانخفاض لا يزال أعلى من مستويات ما قبل جائحة «كورونا»، ما قد يضيف مزيداً من التحديات لمحاولات استعادة التوازن المالي العالمي. وأشار التقرير إلى أن الضغوط التضخمية لا تزال تمثل مصدر قلق رئيسيّاً، خاصة في ظل تعقيد المشهد الجيوسياسي العالمي الذي يزيد صعوبة استعادة استقرار السياسة النقدية، المتمثل في ضبط معدلات التضخم وأسعار الفائدة.

وتتزامن هذه التحديات مع تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني، إذ يتوقع أن ينخفض معدل النمو في الصين إلى 4.5 في المئة عام 2024، وهو أدنى مستوى منذ عام 1990، وسيؤثر هذا التباطؤ تأثيراً مباشراً في الدول التي تعتمد على التجارة مع الصين، سواء كانت تعتمد على استيراد البضائع الصينية، أو على تصدير منتجاتها إلى السوق الصينية، ما يزيد من حدة المخاطر الاقتصادية العالمية. وإضافةً إلى هذا العدد الكبير من التحديات الجيوسياسية، فإن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ أربعة عقود، يفرض ضغوطاً إضافية على الدول النامية التي تعاني تصنيفات ائتمانية ضعيفة. وتواجه هذه الدول تحديات اقتصادية كبيرة بسبب عبء الديون المتزايد، الذي وصل إلى مستويات لم تشهدها منذ عام 2000، وقد تكون لهذا كله آثار طويلة الأمد في استقرار النظام المالي العالمي، خاصة إذا ما استمر النمو الاقتصادي في التباطؤ، وأصبحت الدول النامية غير قادرة على سداد ديونها أو تمويل مشروعاتها الاقتصادية.

ومع تصاعد هذه التطورات دخلت التجارة العالمية في خضم تحولات جذرية قد تُعيد صياغة خريطة العلاقات الاقتصادية بين الدول، فالمنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى، خاصة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ستؤول إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، مع اتِّباع كل من هاتين القوتين سياسات حمائية، واتساع نطاق القيود التجارية على صادراتها، ما يدفع المؤسسات والشركات الدولية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها التجارية بناءً على التحالفات الجيوسياسية بدل المصالح الاقتصادية وحدها.

ومن الواضح أن الحمائية التجارية تشهد زيادة ملحوظة في عام 2024، مع سعي العديد من الدول، خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية، إلى تغيير السياسات الصناعية لتأمين بدائل مرنة لسلاسل التوريد، وتقليل الاعتماد على الخصوم الجيوسياسيين. ويثير هذا الاتجاه مخاوف بشأن مستقبل العولمة الاقتصادية، وإمكانية فك الارتباط التجاري بين الدول الكبرى، واحتمالات تقسيم العالم تجاريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً.

براجماتيّاً، ولمواجهة هذه التحديات، فإن صنَّاع السياسات لم يَعُد أمامهم سوى خيار تبنِّي استراتيجيات «الهليكوبتر»، أو الرؤية الشاملة -من أعلى نقطة- لتدعيم صلابة الاقتصادات الوطنية، وتعزيز قدرتها على مواجهة الصدمات المستقبلية، فبناء التحالفات التجارية العالمية، وتحفيز الاستثمار في تنويع سلاسل التوريد، والتنسيق النقدي والمالي بين البنوك المركزية والسياسات التنموية للحكومات، كلها خطوات ضرورية لحماية الاستقرار الاقتصادي للأنظمة الوطنية.

وفي ظل متغيرات الخريطة الجيوسياسية- الاقتصادية، يجب أن تتبنى الدول العربية استراتيجية تنويع اقتصادي تعزز فيها الاقتصاد الإنتاجي الذي يعتمد على التكامل الإقليمي، وتُقلل اعتمادها على الصادرات الخارجية بصفتها مصدراً أساسيّاً للدخل، والاستثمار في الصناعات الناشئة والتكنولوجيا، وتشجيع الابتكار. ويمكن أن تكون هذه المساعي الضمانة الوحيدة لتحصين اقتصادات المنطقة من تقلبات الأسواق العالمية، والتوترات الجيوسياسية. وعلى الرغم من أن الطريق أمام الاقتصاد العالمي في عام 2024 تبدو مملوءة بالتحديات، فإن الاستراتيجيات المدروسة يمكن أن تساعد على مواجهة الأزمات الاقتصادية المُتوقعة، ودعم الاستقرار المالي، وتحقيق نمو مستدام يخدم مستهدف المرونة الاقتصادية في مواجهة الصدمات العالمية.

ويجب أن تركز محاور مثل هذه الاستراتيجيات على سلاسل التوريد الآمنة طويلة المدى، وعلى سياسات اقتصادية رشيقة قابلة للتكيف والاستجابة للتغيرات السريعة، مع إبقاء العين على فرص الابتكار والاستثمار في المستقبل. ومع وجود رؤية وطنية وخطط استباقية، يمكن للمنطقة العربية أن تحول التحديات فرصاً، وتُعيد تشكيل مستقبلها الاقتصادي استناداً إلى أسس أكثر متانة. ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الدول العربية قادرة على استيعاب أهمية اتخاذ خطوات جريئة وحاسمة في مواجهة التحديات التي تلوح في الأفق، أم أنها ستبقى تراهن على استمرار الاستقرار الظاهري؟

لذلك، في ظل الوتيرة المتتابعة للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية، فإن سرعة التفكير في حلول جديدة وجذرية عنصر وقتي مهم لتجاوز الأزمات المقبلة، ولكن الحلول قصيرة الأجل وحدها لن تكون كافية، بل يجب أن تكون جزءاً من رؤية بعيدة المدى لاستغلال التحديات وتحويلها محركات للنمو والنهوض، كما يجب أن تضع المنطقة على مسار أكثر استقراراً في النظام الاقتصادي العالمي المتغير.

*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، رئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية