في كتابه «نظرية العدالة»، الصادر عام 1971، كان فيلسوف القانون الأميركي جون راولز ما يزال متمسكاً بأنّ المسائل المتعلقة بأفعال الخير لا علاقة لها بالدولة، بل هي من أفعال وأنشطة المؤسسات الدينية والمنظمات المدنية التي تسعى في الأعمال الإغاثية والإنسانية. لكن ما إن أتت تسعينيات القرن الماضي، حتى كثرت القراءات الأخلاقية للقضايا العامة، وفي المقابل صارت الأعمال الإغاثية والإنسانية جزءاً مهماً في سياسات الحكومات.

وحتى جون راولز نفسه ذهب في كتابه «الليبرالية السياسية» (1993) إلى أنّ التفوق الأخلاقي الذي كانت تحظى به الحكومات الليبرالية، محتجةً بمسألة الحريات، ما عاد كافياً أو متحققاً ولا بد من جرعةٍ أخلاقية تُطِلُّ بها الحكومات والأنظمة على الاعتبارات العميقة لإنسانية الإنسان، بما في ذلك الداخل الذي ما عاد يكفي فيه حكم القانون.

والواقع أنّ دول الخليج العربية، ومنذ قيام مجلس التعاون الخليجي وما قبله، ما كانت تقيم فصلاً بين العمل السياسي والعمل الإنساني. ففي كل الأزمات وبخاصةٍ العربية والإسلامية، كان العمل الإنساني والإغاثي يتساوق مع العمل السياسي والدبلوماسي في الإعلانات والتصرفات.

ولطالما اشتهرت دولة الإمارات والدول الخليجية الأخرى بالمبادرة إلى القيام بأعمال إغاثية وإنسانية في كل أصقاع الأرض، وليس في مواجهة الحروب فحسب، بل وفي الزلازل والعواصف والمجاعات والجهود التنموية في البلدان ضعيفة النمو. نذكر ذلك الآن لما قامت به الإمارات والسعودية، والدول الخليجية الأخرى، من أعمال إغاثية جبارة في كل من غزة ولبنان. منذ يومين فقط عقدت فرنسا مؤتمراً كبيراً للأعمال الإنسانية والإغاثية في لبنان، وهو جهدٌ محمودٌ جلب حوالى المليار دولار، منها مائتا مليون دولار لدعم الجيش الذي ينبغي أن يتمركز على الحدود عندما يتوقف إطلاق النار. بيد أن المهجَّرين الذين يزيدون على المليون، والجرحى والمصابين الذين لم يجدوا مأوى، وهم بعشرات الألوف، كانوا قد أُغيثوا من جانب الإمارات والسعودية وأخيراً العراق منذ الأيام الأولى لتصاعد النزاع. ماذا نسمّي هذه الاندفاعة التي أرادتْها الإمارات، وطلبت من مواطنيها المشاركة فيها أيضاً؟ إنها أفعال تراحمية وإنسانية وتضامنية، لكنها مع ذلك هي أخلاق السلم التي اشتهر بها الإماراتيون والخليجيون الآخرون.

وهي تبدو في سائر جوانب العمل الكبير القائم والمستمر. فمنذ مدة بدأ الحديث عن بدء أعمال إعادة الإعمار بعد وقف القتال في كلٍ من غزة ولبنان. وعندما قيل لرئيس الحكومة اللبنانية في مؤتمر باريس إنّ إعادة الإعمار تحتاج لما هو أكثر من الإغاثة، أجاب: إنّ إخواننا العرب لن ينسونا، وهو ما ذهب إليه رئيس مجلس النواب اللبناني أيضاً. خلال مؤتمر باريس قال الرئيس الفرنسي: لا بد من إنهاء حروب الآخرين (إسرائيل وإيران) على أرض لبنان. والواقع أنّ هذه ليست الحرب الأولى، سواء أكان ذلك مسؤولية اللبنانيين أم الخارج.

وفي كل مرة، يتدخل الخليجيون من أجل استعادة السلم، ثم يتدخلون لتجديد العمران. لقد حدث ذلك ثلاث أو أربع مرات خلال خمسين عاماً! الأعمال الإنسانية هي جزءٌ من ثقافة السلم. وإلى جانب الإغاثات الكبيرة بالدواء والغذاء والمأوى، هناك المبادرات والمساعي لوقف إطلاق النار، والتفكير في الإدارة والإعمار، والتفكير أولاً وآخِراً في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس! تنتهي السياسة عندما تبدأ الحرب. لكنّ الأعمال الإنسانية الكبيرة قادرة، بثقافة السلم، على تجاوز أهوال الحروب لصالح السياسة ذات المعنى الإنساني.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية