(1) لَولَا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ * الجُودُ يُفْقِرُ والإِقْدَامُ قَتَّالُ
وهذا بيت من وسائطِ قلائد شعر أبي الطيب المتنبي، وأبياتِ قصائده، وإعجازِ فرائده، كما صنَّفهُ الثعالبي، في كتابه: (الإعجاز والإيجاز). هذه سُنَّة الحياة، فلكل شيء ثمن، وترتفع القيمة، كلما ارتفع قدر المطلوب... والسيادة من المطالب العالية، وتبعاً لهذا العلوِّ، يرتفع ثمنها، وتزداد قيمتها. إنها سوقُ السَجايا، ومراتب الأخلاق، ودرجات الطباع... بورصة حقيقية، لها قِيَمُها، وأسعارها، وإن اختلفت عملتها المعتمَدة، عن الأسواق الأخرى. وهكذا، فمن السِّلع الخُلُقية، السيادةُ، وقيمتها؛ المشقةُ، التي لا يملكها كلُّ أحد، فلو امتلكها الناس، ساد الخَلقُ كلُّهم، لكن ارتفاعَ ثمنها يمنع ذلك.
إن أحدَ أسباب ارتفاع قيمة السيادة، نُدرتُها، فلا يحصل عليها إلا قِلةٌ، ممَّن يدفعون ثمنها الباهظ؛ وهو المشقة البالغة، ومشقة الجود، مظنة الفقر، ومشقة الإقدام، مظنة القتل.
يقول حبيب (الأعلم) الهذلي: وَإِنَّ سِيَادَةَ الأَقْوَامِ فَاعْلَمْ * لَهَا صُعَدَاءُ مَطْلَعُهَا طَوِيلُ
قيل: إن السيادة والرياسة والعُلَا * أعباؤهن كما علمت ثِقالُ.
ولأبي هلال العسكري: إن الأمور مُريحُها في المُتْعِبِ قال أبو العلاء المعري في (اللامع العزيزي): وصفت الشعراءُ أن الأخلاق الشريفة تتعذر على الناس... وبيت أبي الطيب، مثل بيت أبي تمام، القائل:
فَعَلِمنَـا أَنْ لَيـسَ إِلَّا بِشِقِّ النَّـ * ــفـسِ صَـارَ الكَرِيمُ يُدعَى كَرِيمَا
(2) ​إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ القَبِيحِ بِهِ * مِن أَكْثَرِ النَّاسِ إِحْسَانٌ وإِجْمَالُ
معلومٌ أن الواجبات ليس فيها فضل، لوجوب أدائها، لكن المتنبي يقول: إنه في زمن بات فيه ترك الإساءة من غالب الناس فضلاً، مما يدل على تبدل المعايير، والمقاييس تتبدل من زمن لآخر. والبيت ضمن أبيات مديح، فكان قوله: (من أكثر الناس) إخراجاً للممدوح، في لطيفة حسنة من أبي الطيب.
قال الماوردي: «فَسَادُ الْوَقْتِ وَتَغَيُّرُ أَهْلِهِ، يُوجِبُ شُكْرَ مَنْ كَانَ شَرُّهُ مَقْطُوعاً، وَإِنْ كَانَ خَيْرُهُ مَمْنُوعاً»، كما في (أدب الدنيا والدين). ونحوه قول أبي فراس الحمداني: وَصِرنْا نَرَى أنَّ المُتارِكَ مُحْسِنٌ * وَأنَّ خَلِيلًا لَا يَضُرُّ وَصُولُ.

(3) ​ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثاني وحَاجَتُهُ   مَا قَاتَهُ وفُضُولُ العيشِ أَشْغَالُ

قال ابن جني، عن بيت المتنبي، هذا: «يَنْبَغِي أنْ يُلْحَقَ هَذَا البَيتُ بِالأَمْثَالِ السَّائِرَةِ؛ لِمَا قَدْ جَمَعَ فِيهِ وأَوجَزَ». وفي البيت ثلاث حِكمٍ:
1-​أن الذكر الحسن هو عمر المرء الثاني بعد موته.
2-​أن المرء لا يحتاج إلا ما يقتات عليه.
3-​أن ما سوى ذلك من الزائد الذي يُشغل بلا طائل. قَالَ سَالِمُ بنُ وابِصَةَ: غِنىَ النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِن سَدِّ حَاجَةٍ * فَإِنْ زَادَ شَيئاً عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا يعني أن من تطلب زيادة على حاجته، خرج بتطلبه من الغِنى، وصار فقيراً، لما يرجوه من الزيادة. والمقصود بالزيادة ما نسميه اليوم: الكماليات، التي تتجاوز الأساسيات.
وقد استوفى المتنبي في بيت القصيد، بيت ابن وابصة، وزاد عليه: ذكر الفتى عمره الثاني. ومن الذكر الحسن، الذي يُحيي بعد الموت، قول الشاعر: قد مات قوم وما ماتت مكارمُهم * وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ ونحوه قول أحمد شوقي: فَارفَعْ لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها * فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمُرٌ ثاني ولأَنَّ بَقَاء ذكر الْإِنْسَان بعد الموت بِمَنْزِلَة الحياة، قال الشَّاعِر: فَأَثْنُوا علينا لَا أَبَا لأبيكمُ * بأفعالنا إنّ الثّناء هُوَ الْخلد والذكر بعد الموت، لا يكون إلا لمن حَسُنت خصالُه، وزانت فِعالُه، وكان جواداً بمكارم الأعمالِ.