حققت «الرابطة الدولية لعمال الموانئ» الأميركية انتصاراً لمنتسبيها البالغ عددهم 45 ألفاً هذا الشهر: فبعد إضرابها الذي استمر 3 أيام ضد اتحاد الشركات الذي يدير الموانئ في النصف الشرقي من الولايات المتحدة، حصلت النقابة على زيادة كبيرة في الأجور لأعضائها. غير أنه إذا كان عمال الموانئ قد ربحوا هذه المعركة، فالأرجح أنهم سيخسرون الحرب في نهاية المطاف، وذلك لأن هذا الإضراب كان يتعلق بشيء أكبر من الأجور – إذ كان يتعلق أيضاً بتهديد أكبر لمورد رزق العمال: الأتمتة.
التاريخ يخبرنا بأن إيقاف أتمتة الموانئ الأميركية أمرٌ في غاية الصعوبة. وفكرة أن الآلات والتكنولوجيا يمكن أن تحسّن الشحن ليست جديدة. فقد ظهرت قبل 70 عاماً تقريباً حين قام شخص دخيل على المجال بإحداث ثورة في الأعمال التجارية، وفي الاقتصاد العالمي.
فقبل خمسينيات القرن العشرين، كان نقل المنتجات من مصنع في الولايات المتحدة إلى المستهلكين في الهند، مثلاً، أمراً صعباً، إذ كانت البضائع تصل بالقطار أو الشاحنات إلى مستودع بالقرب من الميناء، حيث كان العمال يفرغون كل نوع من البضاعة في انتظار شحنه. وحينما تصل سفينة الشحن إلى الميناء، كان العمال يقومون بتحميل البضائع مرة أخرى على الشاحنات وعربات القطار ونقلها إلى رصيف الميناء من أجل تفريغها مرة أخرى.
عمال الموانئ كانوا يأخذون البضائع المتجهة إلى نفس الوجهة ويضعونها على منصات خشبية. وحينما يتم تكديس الأغراض على المنصة، يتم حملها عالياً بوساطة رافعة وإيداعها في عنبر السفينة. وبعد ذلك يقوم عدد أكبر من عمال الموانئ بتفريغ المنصة قطعة قطعة، ويضعون كل واحدة منها في المكان المخصص لها داخل العنبر. وحينما تصل السفينة إلى وجهتها، تكرر العملية بأكملها بشكل عكسي.
غير أن رجلاً يدعى مالكولم ماكلين رمى بهذا النظام في مزبلة التاريخ. وكما يشرح مارك ليفنسون في كتابه حول تاريخ النقل بالحاويات، كان ماكلين ثورياً على نحو غير متوقع: فإذا كان هذا الأخير قد جمع ثروة صغيرة من تطوير شركة نقل بالشاحنات، فإنه لم يكن يعرف شيئاً تقريباً عن الشحن.
وفي خمسينيات القرن العشرين، واجه ماكلين مشكلة حقيقية، هي اكتظاظ الطرق السريعة. ورداًّ على ذلك، اجترح خطة غير معتادة لتجنب المناطق ذات الازدحام الشديد تقضي بأن يقود سائقو الشاحنات مركباتهم مباشرة إلى سفن الشحن في الميناء ويتركون المقطورة والحمولة هناك، على أن تعيد شاحناتٌ أخرى من الأسطول المقطورات إلى البر حينما تصل السفينة إلى وجهتها.
غير أن هذه الخطة كانت تهدر الكثير من المساحة في عنبر الشحن. فخلص ماكلين إلى أنه سيكون من الأفضل أن يفصل جسمَ المقطورة ويضعه على سطح سفينة الشحن الواحد فوق الآخر، وبعدها، يمكن تفريغ هذه الصناديق المستطيلة حين تصل إلى وجهتها، ثم وضعها من جديد على المقطورات. ولم يكن هناك أي تحميل أو تفريغ للبضائع، وكل ما هناك حاويات كبيرة تتحرك من مكان إلى آخر.
تجربة ماكلين أحدثت ثورةً في مجال نقل البضائع إلى السوق. وكما كتب ليفينسون، فإن «ماكلين أدرك أن خفض تكلفة شحن البضائع لا يتطلب صندوقاً معدنياً فحسب، وإنما طريقة جديدة كاملة للتعامل مع الشحن». ففي الماضي، كانت القطارات والشاحنات والسفن تعمل كعمليات منفصلة تربط بينها العمالة البشرية. أما اليوم، فقد بدأت تندمج ضمن نظام واحد عماده الحاوية.
ثم سرعان ما استوعب عمالُ الموانئ ما يعنيه استخدام الحاويات بالنسبة لمورد رزقهم. وبحلول 1958، قرر فرع «الرابطة الدولية لعمال الموانئ» في نيويورك أنه لن يقوم من ذاك الوقت فصاعداً بتفريغ أي بضائع تصل في حاويات. ووصفت صحيفة «نيويورك تايمز» المواجهة بأنها «معركة ضد نقل البضائع بالحاويات».
وفي سلسلة من المفاوضات المحتدمة التي استمرت على مدى العقد التالي، توصلت نقابات عمال الموانئ إلى اتفاق مع شركات الشحن. اتفاق قضى بأنه في مقابل السماح بالمضي قدماً في عملية النقل بالحاويات والأتمتة، ستضمن شركات الشحن توظيف عدد قليل من العمال بأجور جيدة، وبأنه بدلاً من الكدح على الأرصفة، سيقوم عمال الموانئ بتشغيل الرافعات والرافعات الشوكية وغيرها من الآلات.
هذه الاتفاقية، التي تم التوصل إليها في أعقاب إضرابات اندلعت في أواخر الخمسينيات والستينيات، أدت إلى تقليص عدد عمال الموانئ في الولايات المتحدة بشكل كبير، وإن تركت وراءها مجموعةً أصغر من العمال الذين يتقاضون أجوراً جيدة. كما أتاحت حاويات ماكلين، التي كانت تمثِّل شيئاً جديداً في يوم من الأيام، غزو العالم. 
هذا التاريخ العميق هو الذي يساعد على تفسير ما يحدث الآن. ذلك أن عمال الموانئ الأميركيون، الذين يواجهون تهديداً جديداً -- الروبوتات والذكاء الاصطناعي --، حصلوا على زيادة في الأجور ووعود بالأمان الوظيفي، على غرار ما حدث قبل عقود. غير أن هذا الانتصار، ورغم أنه مثير للإعجاب، لا ينبغي أن يحجب حقيقة أن عمال الموانئ كانوا يخوضون معركة دفاعية منذ أن أبحرت أول سفينة حاويات قبل عدة عقود. ولا شك أن المستقبل سيتسم بمزيد من الأتمتة، وعدد أقل من العمال، وأجل، مزيد من الحاويات.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن لايسنسينج آند سيندكيشن»