في عالم يعج بالتوترات والنزاعات، يتساءل كثيرون: ما الدور الحقيقي للثقافة في مواجهة التحديات الكبرى مثل التطرف والجهل والحروب؟ وهل يمكن للثقافة أن تكون حصناً يحمي البشرية من الانزلاق نحو العنف والصدام؟ وهل بات دورها هامشياً في عالم تسوده القوةُ والهيمنةُ الاقتصادية والسياسية؟ إنها أسئلة محورية تعيدنا إلى التفكير في قيمة الثقافة، ليس فقط كأداة للتعبير الفني والفكري، بل قوة ناعمة يمكنها الإسهام في بناء مستقبل أفضل.
لا شك في أن السياق الذي يطرح فيه هذا التساؤل ليس بعيداً عما نراه في مهرجانات مثل «أصيلة الثقافي»، حيث يلتقي مفكرون وفنانون من مختلف أنحاء العالم لتبادل الأفكار والتجارب. المهرجانات الثقافية الدولية، مثل أصيلة، تمثل نموذجاً حياً لكيفية تلاقح الثقافات وتفاعلها في بيئة تتيح الحوار وتبادل الرؤى. لكن هذا النجاح المحدود يطرح سؤالاً أكبر: هل يمكن أن تتجاوز الثقافة إطار النخب المثقفة كي تصل إلى عامة الناس، وتؤثر في حياتهم اليومية وتوجهاتهم السياسية والاجتماعية؟
الواقع يشير إلى أن الثقافة كانت ولاتزال تؤدي دوراً محورياً في تشكيل المجتمعات وتوجيهها نحو السلم أو الحرب، نحو التسامح أو التعصب. ففي التاريخ، كانت فترات الازدهار الثقافي دائماً ما يصاحبها تقدمٌ في الفنون والفكر والعلم، بينما كانت فترات الانحدار الثقافي، مقرونةً بالتطرف والجهل والانغلاق، إلا أن التحدي الحقيقي الذي يواجه المثقفين حالياً هو كيفية جعل الثقافة أداةً فعالةً لتغيير المجتمع، وتعزيز القيم الإنسانية في ظل انتشار الحروب والأيديولوجيات المتطرفة.
منذ إعلان «مكسيكو للثقافة» عام 1982، والذي صدر عن منظمة اليونسكو، بات مفهوم الثقافة يشمل كافة جوانب الحياة البشرية، من الفنون إلى الأخلاق والقيم الاجتماعية. هذا الفهم الشامل للثقافة يفتح أمامنا أبواباً واسعة لاستخدام الثقافة كأداة لتحسين العلاقات بين الشعوب وتقليص الفجوات الاجتماعية والثقافية. إذا كانت الثقافة تشمل كل هذه الأبعاد، فلماذا إذاً ما زالت المجتمعات تعاني الصدامات العنيفة؟ ولماذا ما زال التطرف يجد له مكاناً في عالم يُفترض أن يكون أكثر اتصالاً وتواصلاً بفضل الثورة التكنولوجية؟
يكمن الجواب في أن الثقافة لم تتمكن بعد من اختراق الحواجز التي وضعتها السياسة والاقتصاد، فغالباً ما تُعتبر الثقافة ترفاً فكرياً لا يلبي الاحتياجات الفورية للشعوب التي تعيش ظروفاً اقتصادية واجتماعية صعبة. ومع ذلك، فثمة نماذج ناجحةٌ تُظهر أن الثقافة يمكن أن تكون جزءاً من الحل. وقد أثبتت مهرجانات مثل «أصيلة» أن اللقاء بين الثقافات المختلفة قادر على خلق حوار حقيقي يمكن أن يسهم في تخفيف حدة التوترات.
لكن، هل يكفي أن نعقد المؤتمرات والندوات الثقافية لحل مشكلات التطرف والعنف؟ وهل يمكن أن تحل الثقافةُ محلَّ السياسة في توجيه المجتمعات نحو السلم والعدل؟ في هذا السياق، ينبغي التذكير بأن الثقافة ليست بديلاً عن الأدوات السياسية والاقتصادية، لكنها عنصر مكمل وضروري لتحقيق التنمية المستدامة والسلام. الثقافةُ تُنشئ فضاءاتٍ للحوار وتدعو إلى التفكير النقدي، وهي بذلك تسهم في بناء مجتمعات أكثر تسامحاً وقبولاً للاختلاف والتنوع.
النموذج الذي يقدمه «مهرجان أصيلة» نموذج متميز، بالنظر إلى كونه ساحةَ لقاء بين مختلف التيارات الفكرية والفنية، إلا أن فعالية هذا اللقاء تبقى محدودةً إذا لم تتبعه خطواتٌ عمليةٌ على مستوى التعليم والسياسة والاقتصاد. تحتاج المجتمعات إلى استراتيجية شاملة تدمج بين الثقافة والسياسة والتربية، بحيث يتم تعزيز القيم الإنسانية منذ الصغر وتصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والإعلامية التي يجب أن تضع نصب أعينها مهمة نشر ثقافة التسامح والاحترام المتبادل.
إننا في زمن يعاني الانقسامات العميقة، سواء على المستوى الديني أو العرقي أو السياسي. ومع تزايد الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية، يصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية استخدام الثقافة كأداة لتجاوز هذه الخلافات. يجب أن نطرح السؤال: كيف يمكننا تحويل الثقافة إلى جسر يصل بين الأفراد والمجتمعات بدل أن تكون عاملاً في تعزيز الانقسامات؟
وفي هذا الصدد، تبرز أهميةُ المشاريع الثقافية التي تهدف إلى تعزيز الفهم المتبادل بين الشعوب. ورغم أن هذه المشاريع قد تبدو في بعض الأحيان وكأنها موجهة للنخب المثقفة فقط، إلا أن تأثيرها على المدى البعيد قد يكون عميقاً. فالثقافة تملك القدرةَ على التسلل إلى عقول الأفراد وتغيير تصوراتهم عن الآخر المختلف، وهذا ما يفتح المجال أمام حوار حقيقي يمكن أن يقود إلى حلول مستدامة للأزمات العالمية.
لكن هل يمكن للثقافة وحدها أن تحمل هذا العبء؟ هنا يكمن التحدي الأكبر. فالجهود الثقافية، مهما كانت عظيمة، لن تكون كافية إذا لم تترافق مع إرادة سياسية جادة لتعزيز السلم والتفاهم. فالأنشطة الثقافية، على الرغم من أهميتها، تبقى في نهاية المطاف جزءاً من منظومة أكبر تحتاج إلى تكامل وتعاون بين مختلف الفاعلين في المجتمع.
وفي الأخير يبقى السؤال هو: كيف يمكن للثقافة أن تكون أكثر تأثيراً في توجيه مسار المجتمعات نحو مستقبل يسوده السلام والتسامح؟ والجواب ربما يكمن في تعزيز التفاعل بين الثقافة والسياسة، وجعل الأنشطة الثقافية جزءاً أساسياً من حياة الأفراد اليومية. كذلك لا يمكن للثقافة أن تؤدي دورَها الكامل في غياب التعاون والتكامل بين مختلف القوى الفاعلة في المجتمع.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة