تشتعل الحرب في كل مكان، وتتراوح مصائر الناس بين الهجمات الانتحارية أو الاستسلام لليأس والخنوع. وما كانت لذلك حاجة في غزة ولا في لبنان. يأبى المتقاتلون نداءَ السلام، فتصب الحربُ عليهم أهوالَها ماسحةً الإنسان والعمران.
اجتمع الخليجيون بدول الاتحاد الأوروبي، فتحدثوا عن التعاون، وطالبوا بالسلام وبالقرارات الدولية، واعتبروا ذلك مصلحةَ المصالح، وهم على يقين بأنه لا مصلحة لأحدٍ في سفك الدماء، أو في الإصغاء للأهواء المدمرة. والخليجيون الذين قدموا جهداً إغاثياً كبيراً في غزة، يسارعون الآن أيضاً لنجدة لبنان بكل الدعم المطلوب، ويدعون لإيقاف القصف وحفظ الحياة والاستقرار.
لا يعرف أحدٌ شيئاً عن اليوم التالي في حرب غزة. أما السكان الذين تهجروا مرات عدة، فما عاد يهمهم مَن المنتصر، ومَن المهزوم، ومَن يحكم أو لا يَحكم في القطاع المنكوب. أما في لبنان فالحلّ واضح: تطبيق القرار الدولي رقم 1701، وانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية، وتأمين السلام بنشر الجيش المعزز والقوات الدولية على الحدود الجنوبية.
وهكذا، فهناك نهجان: نهج السلام والتسوية الذي يدعو إليه العرب منذ القمة العربية ببيروت عام 2002، ونهج التحرش والمطاولة الذي لا يخدم أحداً، لكن قوى القتال تسعى ليكون نهجاً سائداً على حساب الإنسان والعمران. ليس لغزة ولا للبنان من أجل النجاة والحياة الحرة الكريمة إلا نهج السلم الذي يحفظ حدود الإنسانية، ويجعل الحياة منجاةً للأطفال الذين يحلمون هم وأهلوهم بالمستقبل الواعد والكريم.
هذه هي الحرب الرابعة أو الخامسة على غزة، وتبدأ دائماً منذ عام 2007 بصليات الصواريخ، وتنتهي بالدمار وآلاف القتلى. أما في لبنان فإنّ الحروب ما عاد لها عدد. وإذا كانت حرب «الطوفان» قد كلّفت تهجير أكثر من مليونين مرات عدة، فإنّ الحرب في لبنان، وهي السادسة أو السابعة، قد قتلت حتى الآن ألوفاً، وهجّرت مليوناً ومائتي ألف. يقول اللبنانيون إنهم لا يتحملون أهوال الحرب والتهجير. وقد بلغت بهم المعاناة حدَّ اللجوء إلى سوريا بعشرات الألوف. والعالم مشغولٌ الآن بمعاناة غزة ولبنان، لكنْ مَن يستطيع نسيانَ مأساة سوريا التي قُتل فيها نصف مليون، وتهجَّر بالداخل، ونحو دول الجوار ملايين عدة. وها هم السوريون يستقبلون اللبنانيين الذين ضاقت بهم بلادهم الصغيرة دونما أملٍ في غدٍ من أي نوع.
منذ عام 2003 (تاريخ الغزو الأميركي للعراق) ما توقفت النزاعات بالداخل ومع الخارج في البلدان الثلاثة: العراق وسوريا ولبنان، وأضيفت إليها هذه المرة المصائب القديمة الجديدة في غزة وفلسطين.
يهدد كلُّ طرف الطرفَ الآخرَ بأنه يعتزم صنع شرق أوسط جديد. وما هو الجديد في منطقةٍ ما عادت تعرف الهدوء، وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. وعندما ينوح كبار السن على الماضي البهيج، يتذكرون الاسم القديم للمنطقة: الهلال الخصيب! شجرة الزيتون هي رمز الخصوبة والسلام. لكنّ محصول الزيتون فقد موسمَه هذا العام في فلسطين وفي جنوب لبنان، ويتساءل الناس عما يبقى من زيتونٍ في شمال لبنان، وقد ضاقت جنبات ذاك الشمال بأفواج النازحين والهاربين من الجنوب البقاع والضاحية. بالأمس شهدت مدينةُ النبطية الخراب والضحايا على نحو لم يعرفه تاريخُها. فماذا يخبئ الغدُ للنبطية ولبعلبك، وكل مرابع التاريخ والعمران.
لقد غيّب الأميركيون والإيرانيون العربَ فسادت الحروب. ومصلحة الجميع اليوم أن يحضر العرب!

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية