تتضح الصورة جلياً حول حدود التوافقات والتجاذبات بين الإدارة الأميركية وإسرائيل بشأن التعامل الإسرائيلي مع إيران و«حزب الله»، والتفاهمات المقبلة بشأن غزة، وهو ما برز في وجود توافقات حول الضربة المحتملة على إيران، لكن في حدود منضبطة، وبما لا يورِّط الولايات المتحدة في عمل عسكري مفتوح في توقيت بالغ الأهمية، يتعلق بموعد إجراء الانتخابات الأميركية، ومسعى الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي للاحتفاظ بأصوات بعض الأقليات المهمة، وعدم الدخول في معترك عسكري جديد. الهدف الرئيس للجانبين سيتركز علي بناء تفاهمات حقيقية داخل الأطر الحاكمة للعلاقات، كما اتضح مؤخراً، بصرف النظر عما هو قائم بين الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ورغبة مؤسسات القوة والنفوذ في البلدين في التعامل وفق علاقات متوازنة على أرضية المصالح المشتركة، وعدم الدخول في مناكفات عديمة الفائدة.. وذلك لوجود إدراك لدى إسرائيل بأنه لا يمكنها أن تقوم منفردةً بالمواجهة مع إيران، وأنها في كل الأحوال بحاجة ماسة للدعم الأميركي الشامل، وليس فقط الدعم الاستخباراتي والأمني في ساحة المواجهة. ولعل هذا ما يدفع إسرائيل للتريث، وعدم الدخول في تجاذبات جانبية، وفي ظل تخوفات من الصدامات التي قد تؤثر على مسار العلاقات واتجاهاتها خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك تصاعد المواجهة مع «حزب الله».

وهكذا، فالجانبان، الأميركي والإسرائيلي، بحاجة لتوافقات حقيقية يمكن البناءُ عليها والانتقال من خلالها تدريجياً نحو تحقيق الأهداف الإسرائيلية، حيث لا يمكن على سبيل المثال توجيه ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية بدون دعم الولايات المتحدة، إذ توجد صعوبات بالغة في إتمام هذا العمل العسكري بشكل منفرد، مما يتطلب تحركاً ثنائياً، واعتماداً على قدرات نوعية، ودعماً وإسناداً جوياً وبحرياً متعدد الأطر والمهام.

ومن ثم فإن ما يجري من توافقات أو تجاذبات سيظل مرهوناً بالسلوك الإسرائيلي ومرتبطاً بما يمكن أن يتم في المدى المتوسط، سواء تجاه إيران أو العمل في العمق اللبناني، حيث ترفض الولايات المتحدة احتلالاً دائماً علي الأرض في جنوب لبنان، وإن كان يمكن تفهم ذلك في سياق المهام والأولويات التي تعمل عليها إسرائيل حالياً، والتي لن تحيد عنها في استمرار العمل العسكري المباشر علي اعتبار أن تل آبيب هي مَن يقرر أمنها، وأنها لا يمكن أن تتخلى عن تقييماتها العسكرية في إطار ما يجري من تطورات مفصلية في مسار الأحداث التي ترتبط بكل من إيران وحلفائها الإقليميين الذين سيمثلون خطراً دائماً على ما يجري. و

إن كانت إسرائيل تتعامل بمنطق الأولويات في كل جبهة على حدة، فالأمر ليس متعلقاً بدرء الخطر فقط على جبهة واحدة، بل بإمكانية التعامل الجذري وإنهاء كل المخاطر والتحديات التي تواجه مستقبل إسرائيل ومكانتها في الإقليم. ولهذا تتحدث إسرائيل عن أولوياتها تجاه الجبهات المختلفة، وليس فقط لبنان أو إيران، ومن ثم تتخوف الولايات المتحدة من إقدام تل آبيب على مزيد من عسكرة سياستها الخارجية الحالية، مما سيؤدي لمزيد من التوتر في الإقليم، الأمر الذي يشير إلى أن مساحات التوافق بين الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن تتحدد وفق مبادئ عامة، مع ضبط مساحات التباين التي تبدو في الدعم الأميركي المفتوح، والذي يتركز حالياً على تقديم الولايات المتحدة مزيداً من المساهمات الأمنية للجانب الإسرائيلي، وبما لا يمس جوهر التنسيق والتحالف الاستراتيجي.

وهو ما يفسر عملَ الإدارة الأميركية على إيجاد قنوات تواصل مستمرة بافتراض أن هناك مؤسسات ضابطة لإدارة العلاقات الراهنة بيت البلدين، وعدم الإغراق في تفاصيل الخلافات، كما يتسق مع اتجاه إسرائيل لبناء نظرية أمن قومي جديدة، وإسقاط الثوابت الأمنية والاستراتيجية القديمة مع تطور وسائل الحرب والمواجهة. وهي تنسق في هذا الإطار مع الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى مزيد من التوافقات الرئيسة بين الجانبين، ويؤكد على أن إسرائيل لا تريد العمل بمفردها، لإدراكها بأن الحرب في الإقليم ممتدة، وأن ترتيباتها الأمنية والاستراتيجية ستكون لها انعكاساتها على بقية الأطراف الأخرى في الإقليم.

وهكذا يمكن التأكيد على أن أي تباينات إسرائيلية أميركية محكومة بمعايير وضوابط مستقرة، رغم ما يجري، وأن الطرفين بحاجة لتنسيق مستمر ودائم، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء داخل مساحات الاختلاف، ومن ثم فأي سيناريو ستعمل عليه إسرائيل سيحظى بدعم أميركي لافت، وفي ظل ما سيطرح من ترتيبات أمنية واستراتيجية مقبلة، ليس فقط في الجنوب اللبناني، ولكن أيضاً ومع إيران وعلى سائر الجبهات الأخرى المناوئة لإسرائيل.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية