اخترنا جزءاً مِن حديث مأثور عنواناً لمقالتنا، مشارَكَةً في يوم المعلِّم الذي كان قبل أسبوعين، خاصةً أن هذا اليوم رفعته القيادة الرشيدة لدولة الإمارات بأن جعلته يومَ احتفال بالمعلم، فكانت كلمة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، حول المعلم، الكلمة التي أطلقت الألسن في الإشادة بالمعلم والتنويه برسالته الثمينة، الأمر الذي أثَّر تأثيراً بليغاً في هذا الاحتفال، وأبرز الدّورَ الذي ينيطه هذا البلدُ الأمينُ بالمعلم ويرجوه من عَمَله وعِلْمه النبيلين، وعياً بإسهام المعلم في صنع اليوم وصنع الغد أيضاً.
إن هذا التقدير الكبير يضاعف من مسؤولية المعلم، ويجعلها ذات شقين، فهو أولاً حريص على أن يكسب ثقة الجهات المعنية بمستقبل هذا البلد والمراهِنةُ دائماً على تفوقه الفكري وأمنه الاجتماعي، خاصةً أنها لا تدخر وسعاً في أن توفر للمعلم ما يجعله قادراً على أداء مهمته في أحسن الظروف وأفضل الأحوال، رافعةً شعارَ «سعادة المعلم تاج فوق رأسه»، و{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن/60). ثمّ هو ثانياً حريص على أن يَحظى بثقة طلبته، أمل الغد ومستقبله، حرصاً يقدم معه إلى هؤلاء الطلبة ليس ثمرات علمه فقط، بل ثمرات كبده أيضاً، لطبيعتهم الخيرة ولما يملكونه مِن روح توّاقة إلى العلم والمعرفة.
قد يقول البعض إن المعلم خارج بلده في وضعية لا يُحسد عليها، لكن الأمر في الإمارات بخلاف ذلك، لأن قيادة الدولة تمنح المقيمَ فيها عنايةً عاليةً، مما يُشْعر حتْماً حاملَ مشعل المعرفة بمسؤولية كبرى، وبأن الحظوة بالثقة آكد وأسَدّ، ويُؤجِّج الوعيَ عنده بأن الارتباط بهذا البلد ليس ارتباطَ مصلحة، بل ارتباط حبٍّ وعطاء.
إن أرض الإمارات أرض خصبة في كل شيء، وهي قابلة لكل جديد يسهم في ترقية الذهنيات وتطوير التكنولوجيات، مع الحرص على قيمها التليدة التّي يختزنها الإرث الإسلامي في المنطقة، وإرث المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في نفوس أبنائها وذاكرتهم الحية، بما يحقق انسجامَ الإنسان الإماراتي مع ذاته واعتزازه بهويته المنفتحة، الشرطان الأساسيان للانفتاح على العصر والاندماج فيه، والمبدآن القويان لِلاِغْتراف من مكاسبه الجوهرية والاِزْورار عن مباذله العرضية.
تتحدد مهمة المعلم إذن في إطار عريض من القيم ينطلق منه ويعود على فلذات الأكباد لينشئهم من جديد، وهنا تكمن أهميته القصوى ودوره الكبير الذي قد يفوق دورَ الأب ذاته. وقديماً فضّل أرسطو المعلمَ على الأب، لأن الأب يُولِّدُ الأجسامَ والمعلم يولّد العقول، وما قيمةُ جسوم من دون عقول؟
ولعله لهذا السبب تركزت مهمةُ الأنبياء والفلاسفة على التعليم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّماً، علّم العقائدَ في مكة المكرمة وغرسها في النفوس، وعلَّم القانون في المدينة المنورة وأنشأ مجتمعاً مدنياً، ومن العقيدة والقانون انبثقت أصول الأخلاق التي وجدت مثالَها المحسوس في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وفي صحابته رضي الله عنهم. وقديماً كان سقراط معلِّماً، وقد جسّد فعلاً هذه المهمةَ النبيلة التي أشار إليها أرسطو، بمنهجه التوليدي الذي أخرج به نفائس العقول من القوّة إلى الفعل، وجعل النّاس تدرك أن الحقائق كامنة في نفوسهم منذ الأزل، وأن دور المعلم هو أن يعِين المتعلمَ على إخراج هذه الحقائق ليس غير. وأعتقد أن منهج سقراط لم يمت، بل لا تزال له راهنيته الكبرى، مما يجعل أوليةَ المتعلم أساسيةً في عملية التّعلم والتّعليم، وهو المنهج المعاصر في التربية.
فشكراً لدولة الإمارات على احتفالها بالمعلم، وشكراً لقيادتها الرشيدة على احتفائها بالمعلم، وشكراً لكل معلم رفع قلمَه ليكتب به في عقول فلذات الأكباد سطوراً من نور.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية