مفهوم القوة واسعٌ شديدُ الاتساع، وليست القوةُ العسكرية إلا أحد مكوناته المتعددة. فالقوة في الأصل مؤثرٌ، أيُّ مؤثرٍ، يُحدثُ تغييراً. ومنها ما هو طبيعي، وما هو اجتماعي. وهي تُقاسُ في علوم الطبيعة بحساباتٍ ومعادلاتٍ يعرفُها أهلُ التخصص. مفهومُها، إذن، شامل. وما الإضرارُ والإيذاءُ إلا أحد تجلياتها السيئة القليلة مقارنةً بتلك الجيدة والنافعة للبشر والكوكب.
ولهذا يُفَضلُ استخدامُ مفهوم العنفوان للتعبير عن التجليات الضارة للقوة، رغم أنه يحملُ أحياناً معاني جيدةً، ورغم كونه يقترنُ بالغرور والغطرسة، فضلاً عن أنه مشتقٌ من العنف. والحربُ، أيُ حربٍ، هي بالتالي نوعٌ من العنف في المقام الأول، رغم أنها تعتمدُ على أنماطٍ متعددةٍ من القوة أيضاً.
لكن إذا أردنا تعبيراً نقياً عن مفهوم القوة نجده في السلام، سواء في العلاقات بين الدول وغيرها من الكيانات أو في التفاعلات بين الأفراد. كما أن سلامةَ الإنسان هي أيضاً أحدُ تجليات السلام. سلامتُه من المرض والجهل والفقر والحاجة، ومن كل ما يحولُ دون تنمية قدراته. وهنا ترتبطُ سلامةُ الإنسان بأجواء السلام التي تتيحُ فرصاً للعمل والبناء والإنجاز والنهوض والارتقاء في حال توفر قيادة رشيدة وإرادة صادقة.
تلك مقدمةٌ ضروريةٌ لمناقشة اعتقادٍ انتشر مع نشوب حرب أوكرانيا، وازداد بعد حرب غزة وما ترتب عليها طوال عام كامل، وأدى إلى تنامي احتمال اندلاع حربٍ إقليميةٍ مدمرة. يقوم هذا الاعتقادُ على أن القوة العسكرية هي الطريقُ إلى تحقيق آمال الشعوب ومصالح الدول وأمنها. ويعني هذا أن ارتداداً ملحوظاً باتجاه إعادة إعلاء شأن مفهوم الجغرافيا السياسية Geopolitics، والتقليل من قيمة مفهوم الجغرافيا الاقتصادية Geoeconomics الذي بزغ مع انتهاء الحرب الباردة الدولية في آخر التسعينيات وتوسُع نطاق العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين دول العالم، وفتَح ظهورُه أبواباً للتفاؤل بمستقبل العالم الذي بات مُعَولمَاً، أو اعتُقِد أنه كذلك، ومن ثم تحقيق ازدهارٍ تقطفُ ثمارَه الشعوبُ والدولُ بدرجاتٍ متفاوتة، ولكنها متزايدة.
غير أن هذا الارتداد، ورغم عواقبه الخطيرة على مستقبل البشرية، يظلُ مؤقتاً. فللحروبِ مهما طالت نهايةٌ لابد منها. ولنا في تاريخ الصراعات، وفي الحربين العالميتين بصفةٍ خاصة، درسٌ لا يصحُ أن يُنسى بعد أن كان العالم قد فهمه واستوعبه.
لا تُنتجُ الحروبُ، مهما تكن مبرراتُها أو حتى ضروراتها لدى مَن يخوضونها، إلا خراباً ودماراً، ويتطلبُ الوضعُ بعدها إعادة إعمارِ ما هُدِم حجراً وبشراً واقتصاداً. ولا يتحققُ هذا إلا في ظل سلامٍ يتيحُ تعاوناً دولياً، وعلاقاتٍ اقتصاديةً وتجاريةً واستثماريةً مفتوحةً بأقصى قدر ممكن.
ولا يعني هذا تقليلَ أهمية القوة العسكرية ومتطلباتها، فهي ضروريةٌ لحماية الدول والأوطان. لكن السلام أكثر أهمية للإنجاز والتقدم والازدهار. ولهذا سيبقى البشرُ في مراوحةٍ بين قوة السلام وعنفوان الحرب، وطوبى لمن يُعطي الأولوية لقوة السلام دون أن يُهملَ بناءَ القدرات اللازمة لعنفوانٍ عسكري إذا فَرضت ظروفٌ قاهرةٌ اللجوءَ إليه.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية