من هم اللاجئون؟ بشكل عام، إنهم الأشخاص أنفسهم الذين كانوا قبل أن يصبحوا لاجئين. فمشاكل حياتك وأعباؤها لا تختفي في اليوم الذي تنقلب فيه حياتك رأساً على عقب بسبب الحرب. فإن كنت تخضع لعلاج كيميائي أو تحتاج إلى دواء منقذ للحياة، يصبح الحصول على هذه الأشياء أصعب بكثير. وفي الفصول الأولى من كتابه الجديد «نازحون.. المدنيون في الحرب الروسية الأوكرانية»، يروي فاليري بانيوشكين كيف عاشت شريحة واسعة من المجتمع الأوكراني الساعات التي تلت العملية العسكرية الروسية في عام 2022. فرغم سقوط القنابل، إلا أن العديد من الأفراد الذين يرسم لهم بورتريهات يذهبون كدأبهم إلى أعمالهم كالمعتاد، لأن الآجال النهائية التي تم تحديدها الأسبوع السابق لم تختفِ، والمرضى الذين يحتاجون للرعاية لم يختفوا أيضاً بكل تأكيد.
غير أنه حتى مع اتضاح حقيقة الوضع الجديد، يحتاج بعض الأشخاص لبعض الوقت من أجل التكيف. فبينما يضع العاملون خططاً لمغادرة البلاد، يواصل مدير الموارد البشرية في إحدى العيادات الطبية مهامَّه بشكل عادي كما لو أنه ليست هناك حرب، فيطلب من الموظفين تعبئة طلبات الإجازة. وتدرك سيدة أن عليها تخزين المواد الغذائية، فـ«تذهب إلى مخبز عصري وتبتاع ثمانية فطائر كرواسون». كما يروي بانيوشكين قصصاً مؤثرةً لأصحاب حيوانات أليفة يقتنعون في حالة صفاء ذهني بأن الكلاب والقطط لا تتناسب مع الحياة في حالة تنقل دائم. هذه الدينامية ليست جديدةً أو حكراً على هذه الحرب. فهذه امرأة حاورها بانيوشكين تتذكر قصة جدتها التي هربت من مدينة تالين التي احتلها السوفييت إبان الحرب العالمية الثانية، وحزمت ضمن ما استطاعت حزمه من أمتعتها فستان سهرة، وجوارب شبكية، وزوجاً من الأحذية ذات الكعب العالي. وفي هذا الصدد، يكتب بانيوشكين أنه يرى «الأشياء الصغيرة التي يفعلها المدنيون في الأيام الأولى من الحرب كنوع من الصلاة»، صلاة من أجل عالم لا يبدو فيه شراء «الكرواسون» وارتداء جوارب شبكية سلوكاً سخيفاً، عالم لا تنقلب فيه حياة الملايين رأساً على عقب بسبب طموحات السياسيين.

غير أنه في كتاب «النازحون» لن يجد القارئ الكثير عن الزعماء والقادة وكبار الساسة، ذلك أن بانيوشكين مهتمٌ أولاً وقبل كل شيء بحيوات هؤلاء الملايين أكثر من اهتمامه بمن هم في القمة. وبالمثل، ليس لدى المؤلف الكثير ليقوله عن الخلفية التاريخية للحرب في أوكرانيا. 
وبالمقابل، يتعلق هذا الكتاب بنوع مختلف من السياسة، سياسة المجتمع الموازي الذي يتكون من أولئك الذين تحطّمت حيواتهم بسبب الجغرافيا السياسية، وجيش المتطوعين المتحفزين الذين يهبّون لمساعدتهم، بما في ذلك توفير خدمة النقل والتوصيل من الحدود والتبرع بالطعام والسكن والدواء. وكما كتب بانيوشكين: فـ«إن الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد لم يكتبوا بعد أي أبحاث جادة عن المجتمعات القائمة على المساعدات الإنسانية».

وهذا لا يعني أن جميع ضحايا الحرب المدنيين أبطال أو قديسون. فـ«في غضون دقيقة واحدة، يمكن للشخص نفسه أن يُظهر نكران الذات والأنانية في آن واحد.. ثم الأنانية مرة أخرى»، يكتب بانيوشكين. لكن هناك أنواع من الإيثار ونكران الذات لا تكون ممكنة إلا في أوقات الأزمات. وفي معرض وصفه لكيفية ظهور مجتمع موازٍ قائم على هذا النوع من الإيثار في الأسابيع والأشهر التي أعقبت اندلاع الحرب في عام 2022، يستحضر سردُ بانيوشكين وصفَ مناظر ما بعد إعصار كاترينا وهجمات 11 سبتمبر في كتاب ريبيكا سولنيت «جنة بُنيت في الجحيم».
بانيوشكين يشكّك في قدرة المجتمع القائم على المساعدات الإنسانية على الاشتغال بفعالية على المدى الطويل، ويكتب أن «العالم حيث لا يوجد فرق بين اللاجئين والمضيفين لا يمكن أن يوجد إلا في حالة واحدة: إذا انتشرت الحرب في العالم بأسره وأصبح جميع الناس لاجئون». بعبارة أخرى، حالما تنحسر الأزمة الأولية، يصبح من الصعب الحفاظ على مجتمع قائم على المساعدات والتعاطف فقط دون وجود أنظمة أو هياكل أخرى.
بيد أن هناك بعض الجوانب الخاصة جداً برد الفعل على ما تعرضت له أوكرانيا. فالاستجابة الأوروبية لأزمة اللاجئين الأوكرانيين، التي تُعد أكبر هجرة قسرية في القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اتسمت بالسخاء على نحو غير مسبوق، وإن في تناقض صارخ مع رد فعل المواطنين الأوروبيين والحكومات الأوروبية على موجات الهجرة من الدول غير البيضاء.
وفي هذا السياق، يروي بانيوشكين قصة مهاجرة روسية في المجر فتحت بيتها وجيبها ووقتها لمساعدة الأوكرانيين الفارين من الحرب، وكتب أن «تدفق اللاجئين من أوكرانيا دفع ناستيا لإعادة تقييم موقفها من اللاجئين بشكل عام، سواء أكانوا من سوريا أم من المريخ». لكنه لا يوضّح كيف أصبحت تتصرف بناءً على هذا الموقف الجديد. غير أنه حتى حينما يتعلق الأمر بالأوكرانيين، فإن الكرم الأوروبي له حدود. فالحكومات أخذت تقلّص الإعانات الموجهة للوافدين الجدد، ومجموعات الفيسبوك التي تم إنشاؤها بعد الحرب لتنظيم المساعدات المتبادلة أصبحت تجد صعوبة في جمع التبرعات. 
وإلى جانب تركيزه على المدنيين، فمما يميّز كتاب «نازحون» عن غيره من الكتب التي أُلّفت حول الحرب الأوكرانية هو أن مؤلفه روسي. فبانيوشكين صحفي مخضرم، عمل سابقاً في صحيفة «كوميرسانت» الروسية. 
ويعترف بانيوشكين بأن هناك أوكرانيين كان يودّ إجراء مقابلات معهم، لكنهم «كانوا يشعرون بالاشمئزاز من فكرة التحدث إلى صحفي روسي واستخدام اللغة الروسية»! ويصف إحدى النساء التي اختارت البقاء في روسيا ومساعدة الأوكرانيين على الفرار إلى أوروبا بدلاً من الفرار بنفسها، قائلا إنها آثرت أن تكون مكروهة في بلدها بسبب «شيء تؤمن به حقاً» (معارضة الحرب) على أن تكون مكروهة في بلد آخر بسبب «شيء لا ذنب لها فيه» (اندلاع الحرب).
ويبدو بانيوشكين من المؤمنين بقدرة الصحافة والقص الصحفي على بناء الروابط الإنسانية وإضفاء الطابع الإنساني على الآخر. لكن رغم قيمة وجهة نظره، ورغم أن القصص التي يرويها مؤثّرة وتبعث على التفكر، فإنه لا يبدو متفائلاً بإمكانية رأب الفجوة بين شعب بلاده والشعب الأوكراني، ولو بعد حين.


محمد وقيف 
الكتاب: نازحون.. المدنيون في الحرب الروسية الأوكرانية
المؤلف: فاليري بانيوشكين
الناشر: يوروبا إيديشنز
تاريخ النشر: أغسطس 2024