فداء الأوطان بالأرواح شرفٌ وفخرٌ، وحماية الدول بفلذات الأكباد فضلٌ ومجدٌ، وهو ما ينطبق على كثير من حروب التحرير في شرق العالم وغربه، وفي تاريخ منطقتنا الكثير من الأبطال الذين يعبرون عن هذه الروح، ولكن الأمور اختلفت في العقود الأخيرة اختلافاً لا تخطئه العين ويرصده العقل.

جدّ في العقود الأخيرة في المنطقة تشكل جماعاتٍ وتنظيماتٍ وميليشياتٍ، تعبر جميعاً عن نسخةٍ متطرفةٍ من الإسلام هي نسخة «الإسلام السياسي» وهو مصطلح يعبر عن جماعاتٍ سياسيةٍ وعسكرية تسعى للوصول إلى السلطة بأية طريقةٍ مشروعةٍ أو غير مشروعةٍ، سلميةٍ أو إرهابية، وهي تتخذ من اسم الإسلام غطاءً تحتمي به من أي نقدٍ يوجه لخطابها المتطرف وأيديولوجيتها المصلحية الضيقة ورؤاها السياسية الفاشلة، ولكن الغالبية من المسلمين يكتشفون شيئاً فشيئاً دجل مثل هذه الخطابات.

ما هو الشيء المختلف الذي تصنعه هذه الجماعات أو الحركات أو الأحزاب ويختلف عن حروب التحرير الوطنية؟ وهذا سؤال مهمٌ جديرٌ بالنقاش والإجابة، فأولاً هذه الجماعات لا تمثل الدولة، وهي تتشكل بالأساس لإسقاط الدولة الوطنية بمبررات تختلف في كل بلدٍ بحسب طبيعته، فمرةً باسم الكفر ومرةً تحت دعوى الخيانة وأخرى بمبرر الفساد أو التقصير، تعددت الأسباب والإرهاب واحدٌ. ثانياً، تبدأ هذه الجماعات بخطابٍ سلميٍ هادئ حتى تتمكن وتتغلغل في المجتمعات، ثم تقلب ظهر المجنّ وتتحوّل لتنظيماتٍ مسلحةٍ تستبيح قتل الشعوب رجالاً ونساءً، عجائز وأطفالاً، فتنشر التفجيرات والاغتيالات والتخريب والتدمير، بتبريراتٍ دينيةٍ ينتجها لها من يسمون أنفسهم بالدعاة وهم ليسوا فقهاء معتبرين ولا علماء معروفين.

ثالثاً، تفتش هذه الجماعات عن عدوٍ خارجيٍ تغطي به على جرائمها التي ترتكبها في حق شعوبها، فبعضهم تحت شعار «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» كما كان يفعل تنظيم القاعدة، ومرةً تحت شعار إقامة الدولة الإسلامية كما كان يفعل تنظيم «داعش»، وقبل ذلك تحت شعار «الحاكمية» و«الجاهلية» التي تكفّر بها «جماعة الإخوان» الحكومات والشعوب، وتختلف هذه الجماعات في تحديد هذا العدو الخارجي، فبعضهم يتحدث عن أميركا باعتبارها تحارب الإسلام أو باعتبارها «الشيطان الأكبر» بحسب كل جماعةٍ ومرجعيتها.

وبعض هذه الجماعات تجد العدو الخارجي في إسرائيل، وتحت شعار محاربة إسرائيل يقتلون ويتسببون في قتل الآلاف المؤلفة من الشعب الفلسطيني أو الشعب العراقي أو السوري أو اللبناني أو اليمني، ويدمرون البنية التحتية بالتفجير والتدمير والسلاح المنفلت دون رقيبٍ أو حسيبٍ، وهذه الجماعات لم تهاجم إسرائيل قط ولم يتضرر منها مواطنٌ إسرائيليٌ واحدٌ، وإنما هي الشعارات لمحاربة الدول العربية ونشر الفوضى فيها. هذه الجماعات تعتمد الغيبيات والخرافات في أيديولوجياتها، سنيةً كانت أم شيعيةً، لا فرق، وبالتالي فكل قراراتها السياسية والاستراتيجية فاشلةٌ فشلاً ذريعاً بالمعايير السياسية أو العسكرية، ولذلك لا يستغرب أن يقول بعضهم إن خسارة خمسين ألف إنسانٍ في مغامرة غير محسوبة العواقب مجرد خسائر «تكتيكية» وهذا الكلام لو قاله أي أحدٍ في العالم تجاه شعبه لأصبح كلامه سبة الدهر وفضيحة لا تعادلها فضيحةٌ.

بعيداً عن التسبب في قتل الآلاف وعشرات الآلاف، فإن قرارات هذه الجماعات تتسبب في موجاتٍ كبرى من النزوح الجماعي بالملايين من البشر، ودون أن تستشير أحداً منهم في تقرير مصيره، بل هي ترمي الجميع في أتون الحرب ثم تزيد في قتل الأبرياء بتهم العمالة والخيانة حين ينتقدون هذه الجماعات وقياداتها. أخيراً، فالفروق كثيرةٌ عن حروب التحرير، ولكن من أهمها أن ولاءات هذه الجماعات هي لدولٍ خارجيةٍ إقليمية أو دولية، وقراراتها هي لخدمة تلك الدول وإن أفنت الشعوب وأسقطت الدول.

* كاتب سعودي