وقفتُ ذات يوم أتأمل ميداناً كبيراً يتوسّط العاصمة الألمانية برلين، كان ذلك قرب «نقطة الجندي تشارلي» المعروفة، والتي كانت آخر نقاط سور برلين انهياراً بعد نهاية الحرب الباردة.
في ذلك الميدان توجد كنيستان.. واحدة منها كاثوليكية والأخرى بروتستانتية، ويأتي الزوار لالتقاط الصور هنا وهناك، كما يفعلون مع «تشارلي بوينت». ذلك أن الكنيستين ليستا مجرد مكانيْن للعبادة، بل إنهما رمز لنهاية حربٍ هي واحدة من أسوأ حروب أوروبا، والتي بدأت عام 1618 وانتهت بصلح وستفاليا عام 1648، وسميّت حرب الثلاثين عاماً.. وتشير بعض التقديرات لمقتل (8) ملايين أوروبي في أتون معارك هذه الحرب.
لقد كانت هذه الحرب حرباً دينية بالأساس، وكان الخطّ الرئيس لها هو صراع الكاثوليك والبروتستانت، ومن هذه الحرب الدينية المذهبية تولّدت العلمانية الأوروبية.
في القرن التاسع عشر شهدت أوروبا موجة أخرى من الحروب قادها نابليون بونابرت ونسبت إليه. انتهت الحروب النابليونية بهزيمة فرنسا في معركة واترلو، وإبرام معاهدة فيينا 1815، وهي المعاهدة التي أقامت سلاماً في أوروبا امتدّ (100) عام حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914.
لم يكن الاقتصاد هو المحرك الرئيس لحروب نابليون، وإنْ كان حاضراً بالضرورة، ذلك أن النخبة النابليونية كانت طامحة لحكم أوروبا بموجب رؤى وقوانين وفلسفات جديدة، وهي الرؤى التحررية التي جعلت موسيقاراً كبيراً مثل بيتهوفن يهتف لوصول نابليون واحتلال بلاده من أجل نشر الحرية، قبل أن يتراجع لاحقاً، ويلغي الإهداء الذي منحه له في إحدى سيمفونياته، بعدما رأى مآسي الحرب ومآلاتها. لقد كانت الثقافة - أيضاً - وليس الاقتصاد.. هي المحرك الرئيس لتلك الموجة الصاخبة من حروب القارة العجوز.
لم تكن الحرب العالمية الأولى هي الأخرى حرباً اقتصادية بالأساس، فقد أدى حادثٌ عرقي استهدف ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية على يد شاب صربي، إلى إشعال الحرب. كما أن نتائج الحرب أسفرت عن انهيار الدولة العثمانية «المسلمة» والإمبراطورية النمساوية المجرية «المسيحية».
ولقد أسست تلك الحرب ذات الطبيعة الثقافية لأسباب الحرب العالمية الثانية، الأكبر في التاريخ، فقد أدّت معارك الحرب إلى صعود الشيوعية في روسيا، وأدت نتائجها إلى صعود النازية في ألمانيا.. ثم عاش العالم (50) ألف ساعة من القتال، قُتِل فيها (70) مليون إنسان. وقد كانت الأيديولوجيا لا الاقتصاد هي المحرك الرئيس لتلك الحرب العظمى، ولما تلاها من عقود الحرب الباردة.
إن صناعة السلطة والسطّوة، وبناء المجد والخلود، ونشر المذاهب والأفكار.. هي كلها أمور ثقافية وقفت وراء معظم حركة التاريخ.. من الحضارة الفرعونية إلى حروب الإسكندر الأكبر وجنكيز خان.. إلى كلّ الحروب الدينية عبر التاريخ.
لقد كان المفكر الإيطالي «أنطونيو جرامشي» على حق حين أعطى الثقافة دوراً رئيساً في حركة التاريخ، واعتبرها حجر الأساس في بناء أي نهضة، ولقد كان عصر النهضة الأوروبي بأكمله نتاج حركة الثقافة أكثر مما هو نتاج حركة الاقتصاد.
امتداداً لذلك.. لا يمكن اعتبار الاقتصاد وحده أساس الصراعات الدولية، ولا هو وحده أساس صراعات الشرق الأوسط. إنّهُ حاضرٌ بلاشك في كوكبٍ يدور حول مراكز المال والأعمال.. أكثر مما يدور حول الشمس. ولكنه وهو يدور، جامعاً للثراء أو صانعاً للفقر، إنما يهرول فوق أكوامٍ من الأفكار والقناعات والأيديولوجيات.
العالم الأفضل يبدأ من الثقافة.
*كاتب مصري