عرفت فرنسا في الأيام الأخيرة ظاهرتين أخلاقيتين خطيرتين هزّتا الأوساط، وأثارتا النّقاش في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وهما ظاهرتان جديرتان بالتأمل، لقوتهما، ولما تحملان من غرابة تشتد أو تخف حسب زاوية النظر.
الظّاهرة الأولى تتعلق بتصرفات رجل كان له وضع ديني معتبر في الكنيسة، وكان مهتماً بشكل كبير، وبشكل خاص، بالأشخاص الذين يُعانون وضعيات صعبة. كانت سُمعته فوق الشُّكُوك، وصدى التّقدير له جمَّ الرّدود. لكن بعد وفاته بسنين عدداً خرجت شاهداتٌ على تصرفاته اللاأخلاقية تعلن في الملأ ما كان خفياً ومعروفاً فقط في الدّوائر الضّيقة للأب القُدوة الصّالح.
الظاهرةُ الثَّانية تتعلق بشخص عاش مع زوجته لأكثر من عشرين سنة في سعادة ووئام، ولم تكن أسرته تعرف سوى السكينة والانسجام، حتى اكتشفت أمّهم أن أباهم، لسنين عدداً، كان يُخدّرها، ويجعلها فريسة للغرباء، للمتعة فقط، ودون غايات ربحية.
كانت الصدمة كبيرة من ذيوع هذين الخبرين، وتناولت وسائل الإعلام الفرنسية الحادثتين بكثير من التفصيل والمناقشة والتحليل.
ليس الغرض هاهنا التّشهير، لأن الأمر أشهر من أن يُشهر به، إنما هي فرصة للتأمل في الهشاشة الإنسانية، وفي الجوانب الإنسانية المظلمة التي تسكنها الدوافع غير العقلانية، ما يجعل الحاجة ملحة للأخلاق وتقوية وازع الضمير. إن الإنسان مخلوق هشٌّ، وإن ادّعى القوّةَ، وهو مخلوق ينسى وإن ادّعى التّذكرة، وهو مخلوق يغفل وإن ادّعى الحضور، ولذا جاءت الفلسفات لتعمق في الإنسان نظرتَه لذاته وللوجود حتّى يكون أكثر وعياً وحضوراً، ويخفّف من حدّة البلاهة والغياب. ولم تتوقف الفلسفات القديمة عن لفت الانتباه إلى أهمية مراقبة العواطف وإخضاعها للوغوس، حتى يعيش الإنسان وفق الطبيعة، خاضعاً لقوانين العقل، مشرئباً إلى الصفاء الذهني المستبصر الذي يولّد السّكينة التّامة. كما جاءت الأديان لتُعمّق في الإنسان الشّعورَ بالخشية، عساها تُخفِّف من حدة الانفعالات والمشاعر التي يمكن أن تدمّره إذا أطلق لها العنان، فكانت التّقوى العلامة البارزة في البنية الأخلاقية للأديان.
لكن ليس من طبيعة الإنسان دوماً الانقياد للعقل أو للوحي، فحرية الاختيار التي وهبت له، جعلته قادراً على التمرد والعصيان سرّاً وجهراً، وهكذا نجد البشر يعيشون بينهم، ولكلٍّ حياتُه الخاصَّة وأسراره التي تقترب من العقل أو الخشية أو تبتعد عنهما. والنّاس عن أفعال بعضهم ذاهلون، وفي ذلك حكمة التعايش الإنساني، إذ لو تكاشف النّاس لما تدافنوا، كما جاء في المأثور، كما أن هذا الأمر يُنبِّه إلى حقيقة قرآنية عظيمة وهي أن تزكية النفس ليست اكتساباً فردياً أو تحصيلاً ذاتياً أو جهداً عملياً، وإنما هو منحة ربانية وعطاء إلهي: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} (سورة النور: 21). {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا} (النّساء: 49). والقصدُ من هذا التّنبيه القرآني ألا يظنّ الإنسان بنفسه أن ما ارتقى إليه من تزكية إنما هو باجتهاد منه، فيشعر بالعلوّ في نفسه، أو يتطاول على أقرانه بالصّلاح والتّزكية، لأن العلم بأهل البر من النّاس مخبوء، وسرّ إلهي مكنون، لذا جاء الخطاب القرآني صارماً: {فلا تُزكُّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم: 32).
إن المعرفة بخبايا النفس الإنسانية وأسرارها، والتوطين لحياة قائمة على التعايش والتسامح والسّلام، والتطّامن في معرفة أقدارنا وعدم الغلوّ في النّاس.. كلها دروسٌ ننتزعها من هذين الحدثين اللذين شغلا النّاس هناك، واللّذيْن كانا مناسبةً لهذا الحديث هنا.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية