أدت الحرب في أوكرانيا إلى عواقب اقتصادية جسيمة على مستوى العالم، إذ تسببت باضطرابات كبيرة في سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع حادٍّ في أسعار الطاقة والمواد الخام، ونتيجة لتلك العوامل، وجدت العديد من الشركات الأوروبية نفسها على حافة الإفلاس، ولا سيما في ألمانيا التي كانت الأكثر تضرراً.
وكشف تقرير حديث عن تباطؤ أنشطة الأعمال الجديدة في أوروبا، فقد أدى دعم الإدارة الأميركية المستمر للتكنولوجيا الخضراء إلى جذب الاستثمارات بعيداً عن القارة الأوروبية، ووفقاً لمكتب إحصائيات الاتحاد الأوروبي «يوروستات»، فقد ارتفع عدد الشركات التي قدمت طلبات إفلاسها في الربع الثاني من العام الحالي بنسبة 8.4 في المئة مقارنة بالربع الأول، ليصل إلى أعلى مستوياته منذ عام 2015، في حين تراجعت تسجيلات الشركات الجديدة بنسبة 0.6 في المئة.
وتفيد التقارير بأن أكثر من 1400 شركة في ألمانيا أعلنت إفلاسها حتى يوليو الماضي، ويتوقع أن يصل عدد الشركات المفلسة إلى نحو 20 ألف شركة بنهاية هذا العام. وفي النمسا أعلنت نحو 3300 شركة إفلاسها في النصف الأول من العام، وهو الرقم الأعلى منذ 15 عاماً، كما تواجه بريطانيا أيضاً إفلاس نحو 47 ألف شركة، في حين تتوقع اليابان إفلاس 10 آلاف شركة، وفي كندا سُجِّل إفلاس نحو 400 شركة يومياً في الربع الثاني من عام 2024. وترتبط موجة الإفلاسات هذه كثيراً بارتفاع الأسعار، ونقص التمويل الذي أعقب حرب أوكرانيا، فقد شهدت العديد من الدول زيادات قياسية في أسعار الفائدة، وأدى ذلك إلى ركود اقتصاداتها.
تراجع الاستثمارات داخل أوروبا: مؤشرات ومخاوف
تدل العديد من المؤشرات على تراجع الاستثمارات داخل أوروبا، بدءاً من ارتفاع الأسعار وتراجع الطلب، وصولاً إلى ضعف الاستثمارات، وقد أعلنت العديد من الشركات الكبرى، مثل فولكس فاجن، وبي إم دبليو، وسيمنس، نيتَها نقل المزيد من أنشطتها إلى الخارج، ولا سيما إلى الولايات المتحدة الأميركية. كما اتجهت المزيد من الشركات المتوسطة والصغيرة إلى إعلان مواجهتها مشكلات مالية قد تودي بها إلى الإفلاس، وأعلن بعضها الآخر إفلاسه. وبلغ عدد الشركات المفلسة في ألمانيا وحدها، في نوفمبر 2023، أكثر من 1500 شركة.
أسباب إفلاس الشركات الأوروبية والألمانية
تعتمد العديد من الصناعات الأوروبية، ولا سيَّما الألمانية، كثيراً على الغاز الطبيعي الروسي لتشغيل المصانع وتوليد الكهرباء، ومع فرض الدول الغربية عقوبات على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، تراجعت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وأدى ذلك إلى ارتفاع كبير في أسعار الغاز، وزيادة في تكاليف إنتاج الشركات، وتقليص قدرتها التنافسية، وتسببت الحرب أيضاً باضطراب سلاسل الإمداد العالمية، ولا سيما أن أوكرانيا وروسيا تضطلعان بدور حاسم، بصفتهما مصدرين رئيسيين للعديد من المواد الأساسية مثل الحبوب، والمعادن، والطاقة.
وأدى تعطيل الزراعة والصناعة في أوكرانيا إلى نقص في المواد الخام الأساسية وارتفاع أسعارها عالمياً، كما أسهمت العقوبات المفروضة على روسيا في زيادة تكاليف الشحن، وتأخير وصول البضائع، ما زاد الضغط على الشركات. كما أسهم ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام في زيادة التضخم بالعديد من الدول الأوروبية، وقلل القوة الشرائية للمستهلكين، وتسبب بتراجع الطلب على السلع والخدمات، ونتج عن ذلك كله انخفاض في أرباح الشركات، وتفاقم في الأزمات المالية التي تواجهها.
القطاعات الأكثر تضرراً
تعرضت قطاعات عدة لأضرار جسيمة نتيجة الأزمات الاقتصادية المتتالية، وعلى رأسها قطاع الطاقة الذي شهد ارتفاعًا كبيراً في أسعار الغاز والنفط، وقطاع صناعة السيارات الذي يعتمد كثيراً على المعادن مثل النيكل والألمنيوم، التي ارتفعت أسعارها على نحو ملحوظ أيضاً. كما تعرضت صناعة الأغذية لضربة قوية نتيجة نقص الحبوب والزيوت النباتية، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وكانت الشركات الصغيرة والمتوسطة الأكثر عرضة للإفلاس، نظراً إلى امتلاكها هوامش ربح أقل، وقدرة أدنى على تحمل الصدمات الاقتصادية.
الآثار المترتبة على إفلاس الشركات الأوروبية
إفلاس آلاف الشركات الأوروبية له آثار اقتصادية واجتماعية خَطِرة، منها زيادة معدلات البطالة نتيجة فقدان الوظائف، وتباطؤ النمو الاقتصادي بسبب انخفاض الإنتاج والاستثمار، كما تواجه الحكومات الأوروبية ضغوطاً مالية متزايدة، بسبب الحاجة إلى تقديم الدعم للشركات المتضررة، ويزيد ذلك حجم الديون الحكومية. كما تدفع الأزمة الشركات إلى إعادة النظر في سلاسل إمدادها، والبحث عن مصادر بديلة للمواد الخام والطاقة.
ويتضح أن الحكومات الأوروبية تتجه إلى إيجاد بدائل مستدامة لمصادر الطاقة والمواد الخام المختلفة، والإتيان بإجراءات تدعم الشركات المتضررة لمواجهة هذه التحديات، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وسيزيد مثل هذا التحرك التنافسَ على التكنولوجيا، والموارد المتجددة، وسيعمق الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية، إذ سيضر تراجع الطلب على النفط والغاز اقتصادات الدول المصدرة للطاقة، وقد تؤدي الزيادات في أسعار المعادن النادرة المستخدمة في التكنولوجيا الخضراء إلى تضخم عالمي جديد. ويمكن أن يؤدي بطء تكيف الدول النامية مع هذه التحولات إلى تفاقم البطالة والفقر، وزيادة الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ويشبه ذلك تأثير الدومينو الذي سيفرض على الجميع التكيف مع واقع اقتصادي جديد ومُعقد.
التأثير على الاقتصادات العربية
تُبرِز الأزمة الاقتصادية في أوروبا، الناتجة من الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام، ضعفَ الاقتصادات العربية التي تتأثر مباشرة بتقلبات الأسواق العالمية، ففي حين تعاني أوروبا موجات إفلاس وتضخم، فإن الاقتصادات العربية تجد نفسها أمام معضلة أخرى، ويطرح ذلك سؤالاً مهماً، فهل ستظل هذه الاقتصادات العربية مرتبطة على نحو وثيق بالاقتصادات الأوروبية المتداعية، أم ستسعى إلى تنويع مصادر دخلها، وتقليل اعتمادها على الطلب الأوروبي؟ والأهم كيف ستتمكن الدول العربية المصدِّرَة للطاقة من استخدام هذه الأزمة لمصلحتها، ولا يعني ذلك تحويلها فرصةً لزيادة العائدات فقط، بل لبناء اقتصادات قائمة على الابتكار والتنمية المستدامة؟
وقد يدفع الوضع في أوروبا الدول العربية إلى إعادة التفكير في سياساتها الاقتصادية، ولا سيما مع دخول لاعبين جدد إلى الساحة الدولية، وفي ظل التنافس العالمي المتزايد على الموارد والاستثمارات، تكشف الأزمة الحالية عن ضرورة تعزيز التكامل الإقليمي العربي، وتقوية الشراكات مع قوى اقتصادية ناشئة خارج الإطار الأوروبي. والسؤال الأهم الآن هو: هل ستتمكن الدول العربية من استغلال هذه اللحظة الحرجة لتجاوز الاعتماد التاريخي على أوروبا، وبناء اقتصادات متنوعة، وأكثر مرونة؟
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية