شرت في مقالة الأسبوع الماضي إشارةً عابرة إلى أهمية المعلومات الاستخبارية في إدارة الصراعات، وهي جزء من الأهمية الفائقة للمعلومات في صنع القرارات واتخاذها بصفة عامة. وبالنسبة لموضوعنا في إدارة الصراعات بصفة خاصة، فهي ككل العمليات السياسية تنطوي على اتخاذ قرارات لا يمكن لأي منها أن يكون رشيداً، إلا إذا اعتمد على معلومات صحيحة. وكلما كانت هذه المعلومات كاملةً ازدادت رشادةُ القرارات، لأن غياب المعلومات أو عدم اكتمالها يعني أن القرار المتخذ لا يستجيب على نحو سليم للموقف الذي يُتَّخَذ القرار بشأنه. والمثال الأبسط في هذا الصدد أن يتخذ الطبيب قراراً بتشخيص مرض زوده المريض بمعلومات خاطئة أو ناقصة عن أعراضه. وتبدو أهمية المعلومات ووصولها لصانعي القرارات شديدة الوضوح في نظرية الاتصالات لعالم السياسة الشهير، الأميركي الألماني الأصل، كارل دويتش، والذي أوضح أن المعلومات المُحَرَّفة تكون بداية الطريق للقرارات غير الصائبة التي قد تفضي لكوارث. ولنتصور شخصاً يستخدم نظارة طبية غير ملائمة، فسيؤدي ذلك إلى سقوطه أثناء السير أو صعود السلم لأنه لا يرى مواقع أقدامه بدقة. ولذا تلجأ المؤسسات المسؤولة عن إدارة الصراعات إلى عملية تشويش متعمدة لتحركاتها بحيث تكون صورة هذه التحركات لدى الخصم غير صحيحة ولا دقيقة، وبالتالي يفشل في اتخاذ القرارات السليمة بشأن تلك التحركات، بينما يفضي توفر المعلومات الدقيقة والكاملة حول تحركات الخصم وسياساته إلى قرارات صائبة قد تصل نسبة نجاحها إلى 100%‏.
ولا يقل أهميةً عن توفر المعلومات وصولُها في الوقت المناسب، وكذلك سرعة التحرك للاستفادة منها، فما فائدة وصول معلومات كاملة وصحيحة عن ضربة عسكرية ينوي الخصم القيام بها قبل ساعة الصفر بدقائق قليلة؟ وما جدوى المعلومات الصحيحة الكاملة إذا لم يكن الاستعداد للاستفادة منها كاملاً، ولم يتم اتخاذ القرار بالتحرك الفوري بشأن الموقف قبل أن تتغير الظروف، كما شاهدنا في التطورات الأخيرة التي شهدتها المواجهات الجارية؟
وإذا كانت المعلومات على هذه الدرجة من الخطورة، فلا بد من الانتباه إلى أن التقدم التكنولوجي قد حسم معركةَ المعلومات لصالح الدول فائقة التقدم تكنولوجياً، والتي أصبحت تملك القدرةَ على التجسس بوسائل بالغة التقدم على خصومها، بالاعتماد على ما تملكه مِن وسائل متطورة كالأقمار الاصطناعية وطائرات التجسس وما إلى ذلك. والأخطر من هذا أن الأجهزة التي لم يعد في الإمكان الاستغناء عنها لدى أغلبية البشر، أو على الأقل القطاع الفاعل منهم، كالحاسبات الآلية والتليفونات المحمولة.. إلخ، أصبحت جميعُها بمثابة أدوات تجسس كامل على أصحابها. فأجهزة الحاسب الآلي تكون بمثابة كتاب مفتوح أمام مَن صنعها بمجرد اتصالها بالإنترنت، وبالتالي يكون كل ما تحتويه متاحاً أمام مصنِّعيها. ولا تخفى، بطبيعة الحال، استفادة أجهزة صنع القرار في دولهم من هذه الإمكانيات الهائلة، والتليفونات المحمولة تسجل كل ما يدور فيها، فيكون متاحاً للشركات المصنِّعة لها، ومن ثم لأجهزة صنع القرار في دولها. ولنا أن نتخيل كم المعلومات المذهل المتاح نتيجة لهذه الميزة، وهو كمٌّ لم يَعد تحليلُه يمثل أي مشكلة بعد التقدم الهائل في تحليل البيانات الضخمة. ولنا أن نتأمل فيما يعنيه هذا بالنسبة للخصوصية الفردية، والأخطر بالنسبة لأمن الدول التي لا تملك ناصية التفوق التكنولوجي، وما يفرضه من ضرورة التحسب والتدبر لهذا التحدي غير اليسير.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة