الآن فقط وبعد مضي عام تقريباً على نشوب النزاع يصبح ملف الهجرة من جنوب لبنان كبيراً ومأساوياً. التقدير أن منطقة ما وراء الليطاني تحتوي على أربعمائة ألف من السكان.

ومنذ أسبوع تكثفت الضربات عليها بعشرة أضعاف الوضع السابق. كان المقصود سابقاً ضرب مقرات «حزب الله»، أما في هذه الفترة فربما كان المطلوب إفراغ المنطقة من سكانها والاحتمال مخيف، إذ معنى ذلك التمهيدُ لغزوٍ بري. وقد اشتهر أخيراً النصح الإسرائيلي للفارين من منطقة الليطاني بعدم العودة! وليس بسبب كثافة الغارات فقط تتفاقم خسائر المدنيين، بل يزعم الإسرائيليون أن السبب هو وجود الحزب ومراكزه المنتشرة في أحياء المدنيين ومنازلهم.

وهكذا فالمقدَّر أن يصل عدد المهجَّرين من منطقة الليطاني والجنوب بعامة إلى حوالي مائتي ألف نسمة. وهذا العدد كبير على بلد صغير وقدرات متهاوية، وهو ما يؤثر كثيراً على الأطفال والنساء وكبار السن، ليس في قضايا السكن والإيواء فقط، بل وفي قضايا الصحة والتعليم وكفاية الغذاء.

وبالطبع لدى إدارة الحرب من جانب الحزب وحلفائه بالمنطقة قدرات بسبب طول التجربة، لكن محدوديتها ظهرت في الضربات على الضاحية وعلى وسائل الاتصال وتكاثُر الضحايا، بحيث جرى الاعتماد على وزارة الصحة اللبنانية وإمكانياتها والمستشفيات الخاصة في المناطق البعيدة عن مسارح العمليات. وهي مستشفيات كانت تشكو مُرّ الشكوى من نُدرة الأدوية للأمراض المزمنة، بل ومن ندرة الأطباء المتخصصين الذين هاجر كثير منهم خلال السنوات الأخيرة بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. في الظروف المستجدة أظهرت وزارة الصحة والمستشفيات تضامناً وقدرات بارزة، لكن إلى متى يستمر ذلك!

على الجانب الإسرائيلي، أعدت الجهات الحكومية لنزوح أكثر من ستين ألف شخص من المناطق الحدودية مع لبنان، منذ الأسابيع الأولى للحرب. وفي حين تتهم جهات دولية ومحلية كثيرةٌ إسرائيلَ بالتعرض المستمر للمدنيين، يعلن الحزب أنه لا يهاجم إلا الجهات العسكرية. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد أضافت في الأسبوعين الأخيرين إلى أهداف الحرب هدفاً جديداً هو إعادة المهجّرين، بالإضافة إلى الرد على هجمات الحزب، وإبعاده لما وراء نهر الليطاني. لا تُقارَنُ قدرات الحكومة اللبنانية والحزب الإغاثية بالقدرات الإسرائيلية. لكن السكان لا يستطيعون العودةَ من الطرفين إلا بعد وقف إطلاق النار، وإصلاح المساكن والمدارس والبنى التحتية التي دُمّرت أو تضررت. وبالطبع لا يمكن الحديث عن وقف إطلاق النار الآن على الحدود اللبنانية الإسرائيلية وسط إصرار الطرفين، وإن قال الأميركيون إنهم يتوسطون.

تضاءلت الفُرَص مع غزة، وهي ضئيلة جداً في لبنان. ولا حدود لمعاناة المدنيين ليس في الجنوب فقط، بل في سائر أنحاء البلاد. أما القتل فهو يتصاعد دونما تفرقةٍ بين عسكري ومدني.

آخر خِطط وقف الحرب مؤقتاً ما عرضه الأميركيون ومعهم الفرنسيون والعرب: أن يتوقف القتال بين إسرائيل والحزب لواحدٍ وعشرين يوماً. الحزب لم يوافق بعد لأنه لا ربط مع غزة. والإسرائيليون لم يوافقوا بعد لأنهم لا يريدون إراحة الحزب! وبالطبع فإنّ معظم شعوب المنطقة تريد وقفَ الحرب، أمام الاستهتار بحياة المدنيين: فهل تتوقف الحرب بدون شروط؟!

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية