حين صدر كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» وذاعت نظريته في النشوء والارتقاء.. صعد منحنى الإلحاد، وقال الفيلسوف الألماني هيجل: «إنها ضربة قاصمة لنظرية الخلق»، وقال برتراند راسل: «إنها ضربة نهائية للدين».
اعتمد «نيتشه» النظرية في دعم إلحاده، وأهدى كارل ماركس كتابه الأشهر «رأس المال» إلى داروين، وتحوّل جوزيف ستالين بعد النظرية من الإيمان إلى الإلحاد. حسب نظريته التطور، فإن جزئ RNA جاء منه كل شيء، فقد أخذ يتطور ويتنوع بشكل ذاتي حتى نتجتّ، ملايين الأنواع من الكائنات!
وحسب هذه النظرية، جاء التطور نتيجة التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة كالكربون والنيتروجين والهيدروجين والأوكسجين، وقد استغرقت هذه العملية عدداً لا نهائي من المحاولات، عبر ملايين السنين.
ويمكن للمرء أن يلاحظ التطور الذاتي في مشاهداته اليومية، فالذباب والبعوض، واليرقات التي تنشأ من العدم على اللحم المتعفن.. تنشأ من كائنات غير حيّة.
خاض العلماء المؤمنون معركة واسعة ضد نظرية التطور، وتم نقد أطروحة الجزئ الأول أو الجرثومة الأولى التي نتجتْ منها تلقائياً كل أشكال الحياة.
قال العلماء باستحالة تولد الحياة ذاتياً نتيجة التصادم العشوائي، فالأمر يشبه إنتاج مركبة فضاء نتيجة الخلط العشوائي المتكرر لعناصر المركبة. والأمر أعقد كثيراً فيما يخصّ المادة الوراثيّة في الخلايا الحيّة.
إن عالم الخليّة وبيولوجيا الإنسان هو عالمٌ بالغ التعقيد، ويستحيل أن يأتي نتاج التجارب العشوائية لعناصر تكوينه، أو تطوّر مادة بدائية إلى هذا التركيب المذهل لمجرد مرور الزمن. كما أن ما يعتبره البعض تولداً ذاتياً ليرقات اللحم المتعفنّة، فليس ذلك بتولدٍ ذاتي، بل إنّ هناك جزيئات موجودة بالفعل في الهواء، أو أن الذباب وضع البيض على اللحم.. فجاءت اليرقات، حسبما أوضحت تجارب باستور فيما قبل.
يعود البعض بجذور نظرية النشوء إلى فلاسفة مسلمين، ويذكر «بول براتمان» في كتابه «الأصل الإسلامي لنظرية التطور» أنّ «ابن مسكويه» قال في كتابه «الفوز الأصغر» بأنّ «مراتب القرود قاربت الإنسان، وليس بينهما إلا القليل الذي إذا تجاوزته، صار إنساناً»، وقال «إخوان الصفا» بإمكانية أن ينتقل الجماد إلى نبات، والنبات إلى حيوان، على نحو ما قال ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات». وهو ما يعبّر عنه قول أبي العلاء المعرّي: «والذي حارتْ فيه البريّة.. حيوانٌ مستحدثٌ من جماد».
ينفي مفكرون مسلمون أن يكون النشوء والارتقاء هو مقصد الفلاسفة المسلمين، بل كان الأمر يتعلق بترتيب درجات الرقيّ بين الموجودات. ويذهب مفكرون آخرون للتوفيق بين الإسلام ونظرية التطور، فكلمة التطور ليست بديلاً عن كلمة الخالق، ثم إن «فيشر» و«هالدين» عالمان في البيولوجيا التطورية.. الأول مؤمن والثاني غير مؤمن وكلاهما يؤمن بالنظرية.
وتقول أستاذة مسلمة تدرِّس البيولوجيا الجزيئية في جامعة أيوا الأميركية لوسائل إعلام: «إنني أرتدي الحجاب.. واستخدم نظرية التطور في تفسير التنوع وتطور السلالات».. وفي القرآن الكريم «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ» أي أن هناك مدىً زمنياً بين الخلق والتصوير، ويقول تعالى: «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ».. وقد تكون ذرية قوم غير الإنسان.
سيستمر الجدل طويلاً بشأن نظرية النشوء، وقد لا تصمد النظرية في المستقبل. إنّه من الخطأ دفع علم البيولوجيا التطورية نحو دعم الإلحاد، ذلك أن مزيداً من العمق المعرفي يعزّز الإيمان، وما تزال الأغلبية الساحقة من حائزي نوبل في العلوم من المؤمنين.. لا يجب خلق صراع بين العلم والإيمان، أو فتح جبهات للتراشق بين العقل والعقيدة.. أو بين الجين والدين.
*كاتب مصري