القراءة والإبحار بأشرعة العقل في بحار المعرفة عبر مرافئ الكتب، هو السلوك الإنساني الأكثر رقياً ودعماً للإنسان. القراءة ليست مجرد علاقة نمطية بين الإنسان والأوراق، بل هي علاقة حوارية ناضجة بالأفكار والمعاني بين العقل الواعي وأفكار الآخرين التي صارت حبراً على ورق، فهي انتقال واع بين مرافئ الكتب، بحثاً عن المعرفة والوعي الداعمَين لمواجهة الإنسان للحياة.
الحياة سلسلة متصلة ذات حلقات متباينة ما بين النجاحات والأزمات، والأخيرة تنعكس على الاستقرار النفسي، وبعض الأزمات التي نواجهها قد تحدِث زلزالاً عميقاً في النفس، ويبقى الوعي الصلب قادراً على التعاطي مع تلك الهزات بشيء من الحكمة التي اكتسبها عبر القراءة والمعرفة. من هنا ندرك قيمة القراءة داعماً للوعي الصلب. إن التعامل مع القراءة يجب أن ينطلق من زاوية أنها ليست مجرد طريق للمعرفة، بل هي أيضاً طريق للصحة النفسية ومواجهة الأزمات والتعافي من آثارها النفسية والذهنية.
في دراسة أجرتها مؤسسة Mindlab International في جامعة ساسكس عام 2009 إشارة إلى أن القراءة لمدة 6 دقائق يمكن أن تقلل من التوتر بنسبة تصل إلى 68%. هذه الدراسة وجدت أن القراءة هي إحدى أسرع الطرق لتخفيف التوتر مقارنة بأنشطة أخرى مثل الاستماع إلى الموسيقى أو شرب الشاي. الباحثون وجدوا أن القراءة تهدِّئ معدلَ ضربات القلب، وتقلل من توتر العضلات بشكل فعال، ما يجعلها وسيلةً مميزةً للاسترخاء النفسي والجسدي، وهذا الاسترخاء يعمل على تنقية الوعي من أي اضطرابات، ويجعله قادراً على التفكير بشكل سليم يمنح الإنسانَ القدرةَ على مواجهة الحياة بوعي كامل، وعلى تفادي التداعيات النفسية. وخلصت الدراسة أيضاً إلى الآتي: «إن كنتَ تريد تقليلَ القلق والتوتر، يجب أن تعمل على التحوّل من التفكير في الاستجابة الطارئة للأزمة، والذي قد يسبب لك حالةً من التشوش الذهني الذي يكون بدوره سبباً في التعامل الخاطئ معها.. بمعنى أنه عليك أن تختار كتاباً جيداً للقراءة، ومعه سيتحول ذهنُك المشوَّشُ إلى الاستقرار، ويستعيد قدرتَه على التفكير العقلاني والتعامل مع معطيات الأزمة بحكمة ورؤية متسعة».
كثير من الدراسات، وهذا لمستُه من خلال تجربتي الذاتية، أكدت أن للقراءة فاعلية في تخفيف حدة التداعيات النفسية للأزمات، وفي طرق العلاج بالقراءة يُعتَمد على مطالعة كتُب مختارة بعناية لمساعدة الأفراد على التعامل مع مشاعرهم وتحدياتهم النفسية، حيث تعزز القراءةُ مِن قدرة الفرد على فهم مشاعره، وتقديم استراتيجيات لمواجهة مشكلاته.
أحد التطبيقات الشائعة للببليوثيرابي (العلاج بالقراءة) هو مساعدة المرضى على التعامل مع الأعراض النفسية عن طريق قراءة قصص تتعلق بشخصيات تمر بتجارب مشابهة، ما يعزز التعاطف والتحسن العاطفي. مثلاً، قراءة كتب حول الشخصيات التي تتغلب على التحديات النفسية يمكن أن ترفع من ثقة الشخص بنفسه، وتشجعه على مواجهة تحدياته على نحو إيجابي.
وتظل القراءة إحدى أرقى السلوكيات الإنسانية، ولذا نؤكد أنها ليست مجرد مصدر للمعرفة فحسب، بل هي كما كُتب على باب مكتبة الإسكندرية في مصر القديمة «مكان شفاء النفوس».
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة