في ستينيات القرن العشرين، قدم الناقد الاجتماعي «بول جودمان» قصة رمزية لوصف ما حدث من خطأ في التعليم العالي الأميركي: قبل آلاف السنين كان هناك أناس حكماء يعرفون الكثير من الأمور التي كانوا حريصين على مشاركتها مع الآخرين. كان الشباب يأتون إليهم ويسألونهم: «هل تعلموننا؟» وكانوا يفعلون ذلك. ومع مرور الوقت، جاء المزيد من الطلاب للتعلم. وبعد التعلم، أصبح هناك المزيد من الحكماء القادرين على التعليم والراغبين فيه. ونمت المؤسسة مع المزيد من الطلاب والمعلمين والمزيد من المواد التي يجب تدريسها.

وأصبح الأمر معقداً لدرجة أن الحكماء استأجروا كتبة لتتبع من كان يُعلِّم، وماذا كان يُعلِّم وأي الطلاب كانوا مع أي معلم. والمشكلة اليوم هي أن الكتبة يديرون العرض، ويقررون من سيُعلم، وماذا سيُعلم، ومن المؤهل للتعلم. إن الدرس الذي تنقله هذه الحكاية وثيق الصلة بفهم التطورات المقلقة التي تتكشف في الحرم الجامعي الأميركي. فقد تسبب هجوم إسرائيل على غزة، في أعقاب هجوم «حماس» في 7 أكتوبر، في اندلاع ثورة وطنية للشباب. وبينما ساعدت الجماعات المنظمة في حشد المظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار وحقوق الفلسطينيين، كان اتساع وعمق الجهود أقرب إلى الانفجار العفوي.

وفي هذا الصدد، لم يكن الأمر مختلفاً عن حركات الاحتجاج العفوية السابقة التي نشأت على مدى العقد الماضي: مسيرة النساء، ومظاهرات «مرحباً بالمهاجرين» التي ملأت المطارات الأميركية رداً على «حظر دخول المسلمين»، و«مسيرة من أجل حياتنا» بقيادة الطلاب بعد عمليات إطلاق النار الجماعية المتكررة، وحركة «حياة السود تهم» التي اندلعت بعد مقتل جورج فلويد. تشترك حركة «وقف إطلاق النار» المؤيدة للفلسطينيين في الكثير مع هذه الجهود السابقة. فقد انحرفت سياساتها إلى اليسار، وكانت بقيادة الشباب، ومتنوعة عرقياً وإثنياً ودينياً.

ولكن الاختلاف هو أن المركز الرئيسي لأنشطتها هو الحرم الجامعي، حيث بدأت بالمظاهرات والندوات التعليمية والوقفات الاحتجاجية. ولكن مع استمرار الحرب حتى الربيع وإدراك العالم للقتل الجماعي والدمار الذي ألحقته إسرائيل - والدعم غير المشروط من إدارة بايدن في مواجهة ضخامة الخسائر البشرية والمعاناة - نمت شدة استجابة الطلاب أيضاً.

وأدى هذا إلى ولادة «حركة المخيمات» التي انتشرت بسرعة إلى المئات من مقرات الحرم الجامعي في جميع أنحاء البلاد. منذ المراحل الأولى، واجهت الاحتجاجات المناهضة للحرب في الحرم الجامعي عدداً من الجهات الفاعلة الخبيثة التي سعت إلى إسكات المعارضة أو تشويه سمعتها. ومع اتهام الإدارات بعدم التحرك لقمع الاحتجاجات، قام عدد من المانحين المؤيدين لإسرائيل والأمناء في بعض جامعات النخبة بسحب دعمهم المالي. وبينما كانت أغلب الاحتجاجات المبكرة خاضعة لرقابة ذاتية، كانت هناك حالات كثيرة حيث انخرط الطلاب من كلا جانبي هذا الصراع المشحون عاطفياً في سلوكيات مؤذية أو مُهَدِدة. عند هذه النقطة دخلت مجموعة ثانية من الجهات الفاعلة الخبيثة المعركة. إذ قامت بعض المنظمات اليهودية البارزة المؤيدة لإسرائيل بحشد حملة مُبَالغ فيها تتهم جهود الاحتجاج بأكملها بأنها معادية للسامية في جوهرها، ويجب إيقافها لحماية الطلاب اليهود الذين شعروا بالتهديد أو الاستبعاد.

لقد نشروا تقارير، وشنوا حملة صحفية ضخمة، وأدلوا بشهاداتهم أمام الكونجرس للدفاع عن قضيتهم. وفي حين كانت بعض الأمثلة التي استخدموها مؤلمة بوضوح، فإن الجزء الأكبر من الحالات التي استشهدوا بها لم تكن معادية للسامية بأي معيار معقول. كان هذا الجهد كافياً لتوفير القوة الدافعة لمجموعة ثالثة من الجهات الخبيثة: أعضاء الكونجرس «الجمهوريين». بالنسبة للحزب «الجمهوري»، كانت هذه «عاصفة مثالية». فقد كان طاقم الأشرار عبارة عن جامعات «نخبوية» بطلابها المدللين من الطبقة العليا، وأولئك الذين يعارضون إسرائيل، و«الديمقراطيين» الذين يتسامحون مع السلوكيات التخريبية أو حتى يشجعونها. واُسْتُدْعِي رؤساء الجامعات من رابطة اللبلاب (Ivy League)، هي رابطة تجمع أشهر وأقدم وأعرق جامعات الولايات المتحدة الأميركية والعالم، للإدلاء بشهاداتهم أمام لجان الكونجرس، حيث تعرضوا للمضايقات ومواجهتهم بأسئلة مضللة وخادعة مصَممة أكثر لضرب وسائل الإعلام بدلاً من تقديم المعلومات. وأدت الضغوط التي فُرضت على هؤلاء الرؤساء بعد أن فشلوا في مواجهاتهم أمام لجان مختلفة إلى شعور العديد منهم بأنهم مجبرون على الاستقالة.

وذهب «الجمهوريون» الذين شعروا بالنصر، وأنهم في الموقف الأقوى إلى أبعد من ذلك في حملات المضايقة الخاصة بهم – حيث هددوا بسحب التمويل للكليات التي لم تتصرف كما يرى الحزب «الجمهوري»، والمطالبة بمزيد من الرقابة. كما انتقلوا من تشويه سمعة الحركة باعتبارها معادية للسامية إلى دعم «الأيديولوجية الإرهابية» أيضاً.

وفي مواجهة هذه التحديات العديدة، وخشية الضغوط من جانب المانحين والتدخل من جانب الكونجرس، استجابت العديد من الجامعات من خلال دعوة الشرطة لفض الاحتجاجات باستخدام القوة الوحشية في كثير من الأحيان. وفي غضون أسابيع قليلة، اعتقلت الشرطة أكثر من 3000 طالب على مستوى البلاد، وعلقت الجامعات دراسة العديد من الطلاب، ومنعت العديد من المجموعات الطلابية من العمل في الحرم الجامعي. وعندما عاد الطلاب وأعضاء هيئة التدريس إلى حرمهم الجامعي هذا الخريف، اكتشفوا أن مسؤولي الكليات كانوا يعملون بجد خلال الصيف على إعادة صياغة السياسات فيما يتعلق بنشاط الاحتجاج المسموح به والخطاب المقبول.

وبينما كانت هناك بعض الاختلافات من حرم جامعي إلى آخر، فإن القواعد الجديدة كانت تشترك فيما يكفي لدفع الباحثين إلى الكشف عن صناعة «مستشاري الأمن» الذين جُلِبُوا لتقديم المشورة بشأن تغيير سياسات وممارسات الحرم الجامعي. تضع الإجراءات الجديدة حدوداً لوقت ومكان ومدة الاحتجاجات، وتتطلب من المجموعات الراعية تأمين الإذن بنشاط الاحتجاج، وفي بعض الحالات محتوى اللافتات التي سيتم استخدامها.

وقد طُلب من بعض أعضاء هيئة التدريس تقديم مناهجهم للمراجعة (ليس فقط من قبل الإداريين، ولكن من خلال أعضاء الكونجرس). والأمر الأكثر إشكالية هو حقيقة أن كل هذه التغييرات أُجْرِيَت دون مشاركة أعضاء هيئة التدريس أو مجالس الطلاب أو لجان القضاء القائمة بين أعضاء هيئة التدريس والطلاب، وبدلاً من التعامل مع المخالفات داخلياً، فإنها تنطوي على فرض تدخل الشرطة. في حين أعرب كثيرون عن قلقهم من هذه السياسات لا تختلف عن «المكارثّية»، فإن ما يثير القلق بالقدر نفسه هو ما يعنيه كل هذا بالنسبة لمستقبل الجامعة.

وهنا تكمن أهمية المَثل الذي ضربه جودمان، لأن ما لدينا هو وضع حيث صمم الموظفون، بدافع من الخوف والضغوط السياسية والمانحين، عملية استيلاء على السلطة الاستبدادية متجاوزين الهياكل القائمة للحكم، وأمنوا الحرم الجامعي، وتقييد كل من الحرية الأكاديمية وحرية التعبير. وكل هذا تم لإسكات الصحوة الجديدة لدعم حقوق الإنسان الفلسطينية.

*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن