ساعدت زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى سنغافورة هذا الأسبوع على خلق زخم استراتيجي في علاقات الهند مع دولة رئيسية في جنوب شرق آسيا. فقد ارتقت الهند وسنغافورة بعلاقاتهما إلى مستوى شراكة استراتيجية شاملة، علماً بأن سنغافورة لا ترتبط باتفاقية شراكة من هذا القبيل إلا مع عدد قليل من الدول.
رئيس الوزراء السنغافوري لورانس وونغ صرّح بأن البلدين «حددا للمرحلة المقبلة من علاقاتهما الثنائية أجندةً تتطلع إلى المستقبل». ومن أهم مجالات التعاون التي تم الاتفاق عليها بين البلدين مجال أشباه الموصلات، حيث أشرف رئيسا الوزراء على توقيع مذكرة تفاهم بشأن شراكة بين الهند وسنغافورة في هذا المجال.
ناريندرا مودي التقى أيضاً مع الرؤساء التنفيذيين الرئيسيين في صناعة أشباه الموصلات في سنغافورة. وزار شركة «إيه إي إم»، وهي شركة سنغافورية رائدة في قطاع أشباه الموصلات والإلكترونيات. كما قدّمت «رابطة صناعة أشباه الموصلات في سنغافورة» عرضاً لرئيس الوزراء الهندي حول تطور أشباه الموصلات في سنغافورة وفرص التعاون مع الهند. والواقع أن هناك إمكانيات مهمة للتكامل بين البلدين، ذلك أن سنغافورة خطت خطوات كبيرة في صناعة أشباه الموصلات التي باتت تساهم بحوالي 10% من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات، و5% من القدرة العالمية لتصنيع الرقائق، و20% من إنتاج معدات أشباه الموصلات. ويساهم القطاع في 8% من النمو الاقتصادي لسنغافورة. وعلاوة على ذلك، فإن 9 شركات من أصل 15 شركة من أكبر شركات أشباه الموصلات أنشأت فروعاً لها في سنغافورة.
ومن جهة أخرى، تسعى الهند إلى إنشاء نظام لأشباه الموصلات بعد الاضطرابات التي سببتها جائحة كوفيد 19، وكذلك بالنظر إلى التوترات الجيوسياسية في المنطقة والتي تزيد من المخاوف من تعطل الإمدادات. وعلى هذه الخلفية، تسعى الهند إلى إنشاء سلسلة خاصة بها في مجال أشباه الموصلات، وخاصة أن لديها اليد العاملة ولديها ما يكفي من الأراضي لإقامة أي وحدة تصنيع كبيرة. وفي هذا السياق، يمكن القول إن هناك الكثير من إمكانيات التكامل بين البلدين.
وكانت الهند أنشأت «بعثة أشباه الموصلات» في 2021 وكشفت عن خطة دعم وتحفيز بقيمة 760 مليار روبية لتشجيع الشركات الأجنبية على إنشاء فروع لها في الهند. وعلى هذه الخلفية، قرر البلدان أيضاً إنشاء منتدى مواز في مجال الأعمال التجارية للتعاون بين شركات البلدين، بقيادة «بعثة أشباه الموصلات» الهندية ومؤسسة «سنغافورة للمشاريع»، وذلك بهدف تحفيز التعاون بين القطاع الخاص في مجال أشباه الموصلات. كما وقّع البلدان في الوقت نفسه اتفاقيات في مجال التقنيات الرقمية والصحة وتنمية المهارات. وفي هذا المجال الأخير، بدأ الجانبان التعاون مع بعضهما البعض مؤخراً حيث ساعدت سنغافورة الهند على إنشاء مراكز للمهارات في أجزاء مختلفة من البلاد.
الاتفاقية الجديدة تهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات التعليم والتدريب التقني والمهني. كما يعمل الجانبان على تدريب المدربين وآلية اعتماد مراكز المهارات في الهند. وتُعد التدريبات أحد أبرز المجالات التي تحتاجها الهند بشدة في ظل سعيها لتحقيق فرص عمل مجزية للملايين من مواطنيها الذين ينضمون إلى صفوف القوى العاملة كل عام. كما اقترح رئيسُ الوزراء الهندي ناريندرا مودي إنشاء ممر متعدد الوسائط وممر اقتصادي يربط جنوب شرق آسيا بالشرق الأوسط وأوروبا عبر الهند. والجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء ناريندرا مودي من المعجبين بالكيفية التي تطورت بها سنغافورة هذه الدولة القومية إلى دولة مدينة حديثة. وفي محادثاته مع نظيره رئيس الوزراء لورانس وونغ، قال مودي إن الهند تريد إنشاء «عدة نماذج لسنغافورة» وإن سنغافورة «تمثّل مصدر إلهام لكل الدول النامية».
سنغافورة كان لها دور مهم أيضا في انضمام الهند إلى تجمع «الآسيان» الذي يشمل عشر دول هي إندونيسيا وتايلاند وسنغافورة وماليزيا والفلبين وفيتنام وميانمار وكمبوديا وبروناي ولاوس، إذ لعبت سنغافورة دوراً مهماً في مساعدة الهند على إقامة روابط مع التجمع. ومن جهة أخرى، يصادف هذا العام الذكرى السنوية العاشرة لسياسة «النظر إلى الشرق» الهندية. ومع مرور 100 يوم على بدء ولاية حكومة مودي الثالثة، هناك وتيرة سريعة في تواصل الهند مع دول الآسيان، إذ زار رئيسا وزراء فيتنام وماليزيا الهند في زيارتين منفصلتين. ورفعت الهند علاقاتها مع ماليزيا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة خلال الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم. ومن جانبها، زارت رئيسة الهند فيجي ونيوزيلندا وتيمور ليشتي. وقبل وصوله إلى سنغافورة، سافر مودي إلى بروناي في أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي إلى هذا البلد.
وقفزت تجارة الهند مع دول «الآسيان» في السنوات العشر الماضية من 65 مليار دولار في 2015-2016 إلى 120 مليار دولار في 2023-2024. كما نمت صادرات الهند من 31 مليار دولار في 2016-2017 إلى 44 مليار دولار في 2022-2023. غير أن التركيز انصب أيضاً على العلاقات الثنائية خلال زيارة مودي، إذ جاءت هذه الزيارة بعد اجتماع الطاولة المستديرة الوزاري بين الهند وسنغافورة الذي حدد التصنيع المتقدم وأشباه الموصلات والاتصالات باعتبارها مجالات جديدة للتعاون، بالإضافة إلى التدريب والرقمنة والرعاية الصحية والاستدامة.
وختاما من الواضح أن العلاقات بين الهند وسنغافورة باتت الآن في المرحلة التالية حيث من المتوقع أن يتعمق التعاون أكثر.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي