بعد تخرجي في جامعة القاهرة زرتُ مكتبة جامعة ليدن في هولندا، وكان هذا أول تعامل لي مع مكتبات الغرب. وفي هذا العام زرتُ مكتبة عامة في العاصمة الأميركية واشنطن، وكان هذا أحدث تعامل لي مع هذه المكتبات.
تركتْ زيارتي المبكرة لمكتبة جامعة ليدن التي تضم ستة ملايين كتاب أثراً كبيراً في نفسي. ما هذا الجمال والبهاء في كل شيء؟ في تنظيم الأرفف، وأناقة الممرات، وراحة الجلوس للمطالعة.. كان ذلك الأَلَق أخّاذاً بلا حدود.
في سابق الزمان كانت حيازة المكتبات الضخمة أو الفخمة ركيزة للوجاهة والاعتزاز، واليوم فإنّ حق القراءة في مكتبة عامة أنيقة.. بات واحداً من حقوق الإنسان. المباهاة بالمكتبات اليوم أكبر مما مضى، ففي ألمانيا تعد المكتبة الوطنية الألمانية للعلوم والتكنولوجيا.. واحدةً من أكبر المكتبات في العالم، إذْ تضم هذه المكتبة التي تأسست في القرن التاسع عشر أكثر من عشرة ملايين مادة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة. وفي فرنسا تتصدّر المكتبة الوطنية أكثر من 18 ألف مكتبة عامة، وتضم عشرة ملايين كتاب.
أما مكتبة الكونجرس التي تأسست لخدمة أعضاء الكونجرس الأميركي في عام 1800، فتضم اليوم 170 مليون مادة، منها 40 مليون كتاب، تضاف إليها 10 آلاف مادة يومياً، وتصل ميزانيتها إلى نحو مليار دولار سنوياً.
في الولايات المتحدة ودول عديدة متقدمة توجد ما يمكن تسميتها «الأوقاف الثقافية».. وهى الأموال التي تم وقفها للإنفاق على المكتبات والجامعات، وعلى العلوم والفنون والآداب.
لقد تأسست جامعة هارفارد من تبرع تقدم به المواطن البريطاني «جون هارفارد» الذي هاجر إلى أميركا، وتولى إنشاء كلية دينية على نفقته الخاصة، ثم تطورت الكلية لاحقاً لتصبح واحدةً مِن أهم جامعات العالم. ولا تزال أوقاف جامعة هارفارد هي الأكبر بالنسبة لأي جامعة في العالم. وتصل أوقاف جامعة «ييل» التي تحتل المركز الثاني في التبرعات إلى أكثر من 22 مليار دولار.
وقد بُنيت جامعة ستانفورد هي الأخرى من تبرعات أسرة ستانفورد، وفي الآونة الأخيرة كان أحدث وأكبر وقف بحثي قد تقدم به المستثمر التكنولوجي «جون دوير» الذي تبرع بـ1.1 مليار دولار لإنشاء كلية لعلوم المناخ تحمل اسم «كلية ستانفورد دوير للاستدامة».
ويعد تبرع «دوير» ثاني أكبر تبرع شخصي لجامعة أميركية، حيث سبقه «مايكل بلومبرج» الذي تبرع بـ 1.8 مليار دولار لجامعة جونز هوبكنز. لقد قال كل من «دوير» و«بلومبرج» في شرح ذلك: «لولا جامعتي ما كنتُ أنا».
وفي عام 2018 وصل حجم الأعمال الخيرية في الولايات المتحدة إلى 400 مليار دولار، زاد في عام 2020 - أي أثناء جائحة «كوفيد» - إلى 500 مليار دولار، وفي عام 2023 وصل إلى 560 مليار دولار.
حازت المؤسسات الدينية على نصيب الأسد (146 مليار دولار)، وحصلت الثقافة والفنون على 25 مليار دولار.
إن قوة أميركا لا تكمن في السياسة والسلاح وحدهما، بل تكمن في العلم والفكر أيضاً. إن قراءة الولايات المتحدة من خلال البيت الأبيض ووزارة الخارجية ليست كافية، بل تجب قراءتها دوماً من خلال جامعاتها وشركاتها وعلمائها وأبحاثها وأوقافها وهوليوودها.
وبالنسبة للعالم العربي، وهو يحاول اقتلاع قدميه من ألف يدٍ خفيّة تشدّه للأسفل، فإن الإنفاق على الثقافة والجامعة ومختبرات الفيزياء والكيمياء هو طريق لا بديل عنه.
حين نجعل العالِم نجماً، ولا نجعل التافه شخصاً مشهوراً.. نكون قد بدأنا الخطوة الأولى.
*كاتب مصري