أصبح الحديثُ عن نشوب حربٍ عالمية ثالثة معتاداً بعد أن كان نادراً. ومن هذا الحديث ما يعتبرُ توقعاً، ومنه ما يُعدُّ تحذيراً، ومنه كذلك ما ينطوي على تلويح. وقد بدأ هذا الحديثُ على استحياءٍ إثر نشوب حرب أوكرانيا في فبراير 2022، حين اضطرت روسيا إلى تنبيه حلف «الناتو» لمغبة التدخل فيها. وازداد حديثُ الحرب العالمية بشكلٍ ملحوظ في الأسابيع الأخيرة، بعد حصول كييف على إمداداتٍ عسكريةٍ نوعيةٍ غيرَ مسبوقةٍ من بعض حلفائها الغربيين.
وعندما شنت القواتُ الأوكرانية هجومَها المباغت في إقليم كورسك في 6 أغسطس الماضي، صدر عن موسكو ما يُعدُّ أقوى تصريحاتٍ للتحذير مما قد يترتبُ على سماح دولٍ غربيةٍ لكييف باستخدام أسلحة زوَّدتها بها لضرب العمق الروسي، واعتبرته لَعباً بالنار. وحملت بعض التصريحات معاني تتراوح بين مراجعة العقيدة النووية الروسية، وتوجيه ضرباتٍ ضد أهدافٍ في دول «الناتو» حال تهديد العُمق الروسي. وإن حدث ذلك، فالمفترضُ أن تُفَعَّل المادةُ 5 من ميثاق الحلف التي تنصُ على أن أي تهديدٍ عسكري لدولةٍ عضو فيه هو اعتداءٌ على دوله جميعها. وعندئذ قد يُفتحُ باب الشيطان الذي قد يقود إلى حربٍ أوسع، قد تتجاوزُ حدود أوروبا، ما لم يمكن تدارك الأمر بالسرعة الواجبة.
ليس غريباً، إذن، أن يزداد الحديثُ عن حربٍ ثالثةٍ بعد أكثر من ثمانية عقودٍ من انتهاء الحرب الثانية التي كان مُعتقداً أنها خاتمةُ الحروب الكونية. فقد بدا في الفترة التي أعقبتها أن العالَمَ استوعب دروسَ الويلات التي ترتبت عليها. فقد تسارعت جهود تنظيم إدارة العلاقات الدولية، عبر تأسيس الأمم المتحدة ووكالاتها المتعددة، وعقد عشرات المعاهدات والاتفاقات التي وضعت مرجعياتٍ ومعاييرَ قانونيةً لضمان حل الصراعات بالطرق السلمية.
غير أن العالم تغير كثيراً منذ ذلك الوقت، فعاد شبحُ الحرب العالمية يَلُوحُ في سماء العالَم من بعيد مقترناً باستقطابٍ دولي حاد، إذ تسعى روسيا إلى تشكيل كتلةٍ دوليةٍ في مواجهة التكتل الغربي. ويبدو الاستقطابُ الآن أخطرَ مما كان في مرحلة الحرب الباردة الدولية بسبب غلبة المعادلات الصفرية، وغياب التواصل المباشر، وإنهاء العمل باتفاقاتٍ وَضعت سقوفاً لسباق التسلح التقليدي والنووي لفترةٍ طويلة. ولا توجدُ الآن مفاوضاتٌ مباشرةٌ بين الطرفين، بخلاف الحال في مرحلة الحرب الباردة حين حالت الاتصالاتُ المباشرةُ دون نشوب حرب نووية على خلفية أزمة الصواريخ الروسية في كوبا عام 1960، وأتاحت أيضاً عَقد أهم المعاهدات في مجال الحد من التسلح.
ومع ذلك لا يعني ازدياد الحديث عن حربٍ عالمية ثالثةٍ تنامي احتمالات نشوبها، وخاصةً إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الأميركي أو التزم بما تعهد به من العمل على حل أزمة أوكرانيا. وحتى إن لم يعد ترامب، فمن شأن كثرة الحديث عن هذه الحرب أن يزيد َالاهتمامَ بها ويدفعَ إلى اتخاذ إجراءاتٍ واحتياطاتٍ لمنع نشوبها.
وفي كل الأحوال، يحسنُ أن يسعى عقلاءُ العالَم مِن الآن لمعالجة العوامل المؤدية إلى ازدياد الحديث عن حربٍ عالمية ثالثة. 

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية