لطالما تركزت الاهتمامات في نشر المعارف والعلوم، وبناء الثقافات المتنوعة والغنية، على محاولة إخراج الإنسان، أياً كان تموقعه الزماني والمكاني، من ضيق الانعزال إلى سعة التفاعل والتعارف الإنساني، باعتبارها «مفتاح» الارتقاء وإحداث التحول في مختلف مجالات الحياة.
وفي ظل ما تحقق مِن وفرة معلوماتية هائلة، وبخاصة مع التطور التقني والتكنولوجي الرقمي، وبناء قواعد البيانات الضخمة والهائلة التي وصلت إلى تحويل المكتبات الورقية إلى أخرى رقمية، وتحققت إنجازات في مجال الذكاء الاصطناعي لم يتخيل الإنسان أن يصل لها يوماً، فأصبحت الآلة طبيباً ومحاسباً ومهندساً وإعلامياً ومعلماً.. وغيرها الكثير.
وفي ذات السياق، فإن توصيف الوضع المعرفي للمجتمعات انتقل من الحاجة للوجود والاكتساب المعرفي إلى توليد ما يسمى «مجتمعات المعرفة»، أي المجتمع كمصدر لنشر وإنتاج وتوظيف المعرفة في مختلف المجالات والأنشطة الحياتية، وصولاً لتحقيق الرقي الإنساني بإنتاج نمط حياتي اجتماعي متقن، وهو الأمر الذي دعا منظمة اليونسكو لاعتبار المعرفة البنيةَ التحتيةَ التي تمكّن القوى البشرية مِن وضع خريطة طريق للتوجه الفكري بشكل دقيق.
ولأننا ندرك ضرورة حل المشاكل وتجاوز التحديات الموجودة، بالتزامن مع الانخراط في سباق المواكبة العالمي، فإن تحقيق مجتمع المعرفة لا بد أن يحظى باهتمام متوازٍ مع استراتيجية قادرة على قياس معاييره، وموازاة ذلك بتشجيع الاهتمام بالإرث الحضاري في مختلف المجتمعات بحيث لا يحول التطور التقني والتكنولوجي وبناء مجتمع المعرفة دون تقدير الموروث والاستفادة منه، بالإضافة إلى ضرورة العناية بالتحديات الملامِسة لواقع الإنسان، من تدني مستوى المعيشة والمشاكل التعليمية، وارتفاع معدلات البطالة وغياب الوعي الثقافي والتقني والسياسي والاجتماعي وضعف المؤسسات التعليمية والأكاديمية.. مما يدفع بضرورة العمل الجاد على الاستراتيجية المعنية ببناء مجتمع معرفة بحيث تكون متشعبةَ الأهداف، وأقرب إلى الشمولية منها إلى التخصص، لا سيما أن رأسمالها هو الإنسان نفسه وليس شيئاً مادياً يمكن تطويعه قسراً.
وتعتبر أبرز الأفكار اللافتة في هذا السياق، ما يصبح عليه المجتمع من صيغ مستحدثة بشكل مستمر، على هيئة خلاصة مكثفة ونتاج للتحول الحاصل في الواقع البشري، سواء أكان ذلك في السياق الثقافي أم الفكري أم التكنولوجي وغيره، وبالتالي فإنه يعتبر أحد أقوى عوامل التحفيز على الابتكار والتقدم في الطرح المعرفي القائم على الإبداع، والذي يقوم هو أيضاً بإنتاج منظومة فكرية ومعلوماتية ومعرفية لا تتناغم مع الواقع فحسب، بل تضع بين أيدينا الأدوات المناسبة لتطويع كل ما وصل له الإنسان، من أجل خدمة مصلحته والارتقاء بالخدمات المقدمة له.
إن أنظار أصحاب العقول الفطنة تتوجه اليوم نحو إحداث ثورة حقيقية نوعية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بحيث تختلف عن كل الإنجازات المدهشة المتحققة سابقاً، مما يعني أن المجتمعات الإنسانية اليوم تتسابق في مضمار رفع سقف الإمكانيات والتوقعات والمهارات، وذلك من خلال التركيز على توفير البنية التحتية التي تسمح ببناء صرح اتصال فعال يراعي مختلف المعايير العالمية ومدعوم بنخب متخصصة ذات كفاءة عالية في الإنتاج والتدريب، بالإضافة لتوفير قطاعات متخصصة في مجال الابتكار، وتوفير نافذة على نتائج الأبحاث والدراسات الناتجة عن أعرق الجامعات والمراكز حول العالم.
إن قدرة الدول على توفير البيئة الحاضنة المناسبة لمجتمع المعرفة، لا بد لها مِن الأخذ بعين الاعتبار أهميةَ إعطاء المنظومة الإعلامية المساحةَ الكافية التي تحتاجها، من حرية الرأي والتعبير والاستقلالية والتنوع في الوسائط، إلى جانب تثبيت وترسيخ الدعامات الأخلاقية في مجتمع المعلومات من خلال تعزيز القيم المشتركة والرئيسية مثل التسامح والتضامن واحترام كرامة الإنسان والحريات وغيرها، مما يأخذ بيد المجتمعات اليوم نحو حقبة معرفية مختلفة توصل مخيلتنا المتواضعة إلى استشرافات بديعة وخلاقة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة