كان اجتماع محافظي البنوك المركزية الذي عقد بمنتجع «جاكسون هول» الأميركي الأسبوع الماضي أشبه بدورة انتصار شرفية أخيرة لـ«الاحتياطي الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي). وقد يكون أيضاً الفعالية التي بلغ فيها «الاحتياطي» ذروة نفوذه.
والواقع أن النجاحات التي حققها «الاحتياطي الفيدرالي» مؤخراً معروفة ولا ينكرها إلا جاحد: فالتضخم يبدو تحت السيطرة، والمخاوف من حدوث ركود اقتصادي آخذة في التلاشي، ما يسمح للبنك بالبدء في تحديد أسعار فائدة طبيعية. غير أن ورقة بحثية قُدمت الأسبوع الماضي تشير إلى أن ذلك قد يكون آخر إنجازات لـ«الاحتياطي الفيدرالي»، إذ من المرجح أن يصبح البنك أضعف في السنوات المقبلة نتيجة تطورين منفصلين ولكنهما مترابطان -- أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
فخلال العقود القليلة الماضية، اكتسب «الاحتياطي الفيدرالي» سلطة استثنائية على الاقتصاد الأميركي. وهذا يعزى جزئياً إلى أنه كان يُنظر إلى الحكومة الفيدرالية على أنها غير فعالة. والحال أن جزءاً من مقاربة عدم التدخل كان مقصوداً ومتعمداً، ذلك أن صناع السياسات كانوا حذرين من الإدارة التفصيلية للاقتصاد، وكانوا يدعمون التجارة الحرة عموماً. وحتى مع ارتفاع العجز، كان هناك على الأقل بعض التقييد المالي -- وخاصة بعد الأزمة المالية والركود الذي أعقبها. وكما لفت إلى ذلك زميلي محمد العريان في مقال له بـ«بلومبرج أوبينيون»، فإن «الاحتياطي الفيدرالي» كان اللاعبَ الوحيد المؤثِّر.
ونتيجة لذلك، كان الكثيرون يتطلعون إلى «الاحتياطي الفيدرالي» ليوسّع نطاق عمله خارج نطاق اختصاصه المزدوج التقليدي والمتمثّل في الحفاظ على التضخم والبطالة منخفضين. وكانوا يريدون من البنك أن يتصدى لتحديات مثل الحد من معدل البطالة الهيكلي، وعدم المساواة، بل وحتى التغير المناخي.
غير أن تلك الحقبة أخذت تشارف نهايتها الآن. ففي ورقتهم البحثية، يحاجج ثلاثة علماء اقتصاد من جامعة نيويورك وجامعة ستانفورد وكلية لندن للأعمال بأن الولايات المتحدة بدأت تنتقل حالياً من نظام «الهيمنة النقدية» إلى نظام «الهيمنة المالية». ففي النظام الأول، يتحكم «الاحتياطي الفيدرالي» في التضخم عبر تعديل أسعار الفائدة الاسمية قصيرة الأجل. والحكومةُ تدعم هذه الجهود عبر الالتزام بزيادة الضرائب في المستقبل، بما يضمن عدم تغيّر أسعار الفائدة الأخرى كثيراً وعدم طغيان الديون على الأسواق. وفي نظام الهيمنة النقدية، تكون أسعار الفائدة والتضخم منخفضة ومستقرة نسبياً.
هذا النظام تغيّر أثناء الجائحة وبعدها، حينما تم إصدار ديون بحجم تلك التي تصدر عادة زمن الحرب من دون مراعاة لكيفية سدادها. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الفائدة وأصبحت أكثر تقلباً بكثير، كما اضطربت العلاقة بين الأسهم والسندات، وعاد التضخم -- وكلها سماتٌ تسم نظام الهيمنة المالية.
في مثل هذا النظام، يكون «الاحتياطي الفيدرالي» أقل قوة ونفوذاً. إذ يتعين عليه إدارة فترات تضخم دورية ويواجه مقايضات حقيقية بين إدارة سوق العمل والتضخم. ثم إن مهمته لا تكون أصعب فحسب، ولكن أدواته تكون أقل قوة أيضاً – ذلك أن لديه تأثيراً أقل على أسعار الفائدة. فبعد أن أصبح الإنفاق معتدلاً وأصبحت السياسة النقدية أكثر تقييداً، عادت الولايات المتحدة إلى نظام السياسة النقدية. غير أن مسار ديون البلاد قد يواجه خطر التحول إلى الهيمنة المالية مستقبلاً.
غير أنه ليست كل الأخبار سيئة بالنسبة لـ«الاحتياطي الفيدرالي». صحيح أن مجرد حجم السياسة المالية يُضعف السلطة التي يفترض أن يتمتع بها البنك، ولكن حجم السياسة المالية يتغير حالياً نحو الأفضل.
فالسياسة المالية، التي أصبحت أكثر طموحاً في السنوات الأخيرة، باتت تقوم أخيراً بما يفترض بها أن تقوم به. ذلك أن كلا الحزبين صريحان في دعمهما للسياسات التي ترمي إلى تحويل الإنتاج من الخدمات إلى التصنيع، إما من خلال الرسوم الجمركية أو من خلال السياسة الصناعية. كما أن هناك أهدافاً تتعلق بتحسين البنية التحتية، وخفض تكلفة السكن، وإصلاح نظام الهجرة. وهذه السياسات تؤدي إلى تغيير جانب العرض في الاقتصاد، الأمر الذي سيؤثّر على معدل النمو والتضخم والمعدل الهيكلي للتوظيف -- وكلها أهداف كان من المتوقع قبل بضع سنوات فقط أن ينكب عليها «الاحتياطي الفيدرالي».
من بعض النواحي، يمكن القول إن هذا النموذج أفضل، مع أنني شخصياً أفضِّل اتباع نهجٍ صديق للسوق. ذلك أن السياسة الصناعية والرسوم الجمركية والديون المفرطة يمكن أن تؤدي إلى اقتصاد أبطأ وأقل إنتاجية. وبالتالي، فإن الخيار الأفضل هو نظامُ الهيمنة النقدية، وحكومةٌ تهدف إلى توسيع جانب العرض في الاقتصاد بسياساتٍ داعمة للنمو لا تتطلب الكثير من الديون.
غير أنه بغض النظر عن الجدل بشأن الحجم والدور المناسبين للحكومة، فإن أحد الأشياء التي يتيعن عليها القيام بها هو تولي جانب العرض، وتسهيل النمو، وسنّ سياسات تؤثّر على توزيع الموارد. ذلك أن الحكومة تمتلك أدوات أفضل للقيام بذلك، ثم إنها مسؤولة أيضاً أمام الناخبين -- خلافاً لـ«الاحتياطي الفيدرالي».
والواقع أنه ليس من المستحسن ولا من المستدام أن يكون «الاحتياطي الفيدرالي» اللاعب الوحيد المؤثر. فصحيح أن بإمكانه تخفيف المطبات الموجودة في دورة الأعمال وإدارة توقعات التضخم، غير أنه على المدى الطويل، يحتاج «الاحتياطي الفيدرالي» للحفاظ على استقلاليته.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»