كانت الفقرة لا تتعدى 480 كلمة مقتضبة، وكانت قليلة التفاصيل، ولم تكن تمثِّل سوى جزء صغير من الخطاب الذي ألقته كمالا هاريس على مدى 38 دقيقة في المؤتمر الوطني للحزب «الديمقراطي» الأسبوع الماضي. غير أنها أوصلت رسالة سُمعت عبر أنحاء العالم - واستُقبلت بارتياح من قبل أقرب حلفاء أميركا في الخارج.
ذلك أن نائبة الرئيس هاريس اغتنمت هذه المناسبة للتعبير عن التزام صريح بنوع من القوة الأميركية، والانخراط الدولي، والزعامة التي يخشى الحلفاء أنها أخذت تخبو، وتراجعت بسبب زيادة التركيز على السياسة الداخلية. وبالنسبة للحلفاء، كانت رسالتها ذات تأثير مضاعف؛ لأنها لم تكن موجهة إليهم على نحو أساسي، وإنما إلى جمهورها المحلي -- للناخبين الذين سيقررون ما إن كانت ستفوز في نوفمبر المقبل.
أفكارها بشأن السياسة الخارجية بدت في جزء منها محاولةً للحصول على دعم من يسمّون بـ«جمهوريي نيكي هيلي» – أي تلك الأقلية داخل حزب دونالد ترامب التي ما زالت ملتزمة بالإجماع الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية بين الحزبين الرئيسيين، بأن شبكة تحالفات أميركا محورية لمصالحها العالمية.
ومن جانبهم، سيستنتج قادة الدول الحليفة من تصريحات هاريس أنها هي أيضاً ما زالت متشبثة بتلك الرؤية، وذلك في تباين قوي مع ترامب، الذي كثيراً ما قلّل من أهمية التحالفات الأميركية حين كان رئيساً، مفضلاً ترتيبات أحادية الجانب، أشبه بصفقات، وغير قابلة للتنبؤ، سواء مع الأصدقاء أو الأعداء.
إلا أنه حتى في حال فوز هاريس، فإن التداعيات السياسية العملية لرؤيتها العامة تظل غير واضحة. ذلك أن خطابها لم يقدّم سوى ومضات وتلميحات يمكن أن تخضع للتحليل في العواصم الحليفة، من الآن وحتى يوم الاقتراع.
ففي أوروبا، حيث أثار الصراع الروسي الأوكراني أخطر صراع منذ الحرب العالمية الثانية، تعهدت هاريس بـ«الوقوف مع أوكرانيا وحلفائنا في الناتو بقوة». ولكن بأي مستوى من الدعم العسكري؟ ولكم من الوقت؟ وبأي استراتيجية؟
وفي الشرق الأوسط، حيث ما زال الرد العسكري الإسرائيلي على هجوم «حماس» على المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر مستعراً، قرنت هاريس تعهداً بالدعم الثابت لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بدعوةٍ إلى وقف إطلاق النار من أجل تخفيف معاناة المدنيين الفلسطينيين.
والهدف، كما قالت، هو ضمان «أمن إسرائيل، وإطلاق سراح الرهائن، وإنهاء المعاناة في غزة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق حقه في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير». ولكن كيف ستستخدم القوة الأميركية لتحقيق هذا الهدف؟ وماذا ستفعل أميركا مع حلفائها في المنطقة وخارجها لتأمين الهدوء والاستقرار وإعادة الإعمار في غزة؟ ثم إلى أي مدى، وإلى متى ستظل واشنطن ملتزمة بهذه المهمة، في حين أن منافسها الجيوسياسي الرئيس يقع على بعد آلاف الأميال شرقاً: صين شي جين بينغ؟
الواقع أن الصين احتلت المرتبة الأولى في خطابها، ولكنها لم تستحق سوى بضع عشرات من الكلمات إذ قالت: «سأحرص على أن نقود العالم إلى المستقبل في الفضاء والذكاء الاصطناعي»، مضيفة «وعلى أن تكون أميركا هي الفائزة بالمنافسة في القرن الحادي والعشرين، وليس الصين».
والحقيقة أن مجرد إيجاز الكلام، والتركيز في العبارات، بدا أنهما يحملان رسالة في حد ذاتهما، مفادها أنها تلتزم بقيود الرئيس جو بايدن الخاصة بالتعريفات الجمركية والقيود التنظيمية على التكنولوجيا العالية الصينية، وتسعى في الوقت ذاته إلى تجنب قطيعة شاملة مع بكين، مع الإبقاء على التواصل، بل وحتى على بعض مجالات التعاون.
ولكن، وبينما ينكب محللو الدول الحليفة على تحليل كل جملة وردت في خطابها، فإنهم يدركون أن العديد من هذه الخيارات السياسية ستتوقف على المشهد السياسي الداخلي في أميركا بعد انتخابات نوفمبر. وفي مقدمة ذلك بالطبع سؤال من سيفوز بالرئاسة.
غير أن سؤال من سيسيطر على مجلسي الكونجرس الأميركي سيكون مهماً أيضاً، وخاصة في حال فوز هاريس. فهل سيكرر المشرّعون «الجمهوريون» رؤية ترامب للعالم، ويضغطون لإنهاء الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا مثلاً؟
والأكيد أن المستشارين السياسيين المحيطين بهاريس سيكون لهم تأثير كبير أيضاً في حال توليها الرئاسة. ويبدو من المؤكد أن جميعهم يشاطرونها وجهة نظرها العامة بشأن الحاجة إلى دورٍ دولي قيادي للولايات المتحدة.
ومستشار هاريس للأمن القومي في الوقت الراهن هو فيليب غوردون، الخبير السابق في السياسة الخارجية في إدارتي كلينتون وأوباما، الذي علّمته مشاركتُه في القرارات السياسية خلال الحرب الأهلية السورية الحدود والقيود الفعلية للقوة الأميركية.
وهذا الشعور بالقيود، الذي أكده تراجعُ أميركا، في عهد الإدارات المتعاقبة، عن التدخل في سوريا والعراق وأفغانستان، هو الذي يغذّي الاعتقاد لدى عدد من الحلفاء بأن واشنطن تعيد حالياً توجيه أولويات سياستها على نحو يبتعد عن الزعامة العالمية القوية، ويركز أكثر على تحديات السياسة الداخلية. وهو ما يساعد على تفسير الأهمية التي أوليت للأفكار التي وردت في خطاب هاريس في المؤتمر، رغم اقتضابها.
فبخصوص أهمية انخراط أميركا في العالم الأوسع، لم يكن بمقدور هاريس أن تكون أكثر وضوحاً. ليس فقط لأنها التزمت بالحفاظ على «أقوى وأكثر قوة قتالية فتكاً» في العالم، ولا لتعهدها بدعم حلفاء أميركا، ولا حتى لتعهدها الحماسي بعدم التردد في وضع أميركا في ما أسمته الجانب الصحيح من «الصراع الدائم بين الديمقراطية والاستبداد». وإنما لالتزام أبسط وأكبر من ذلك، أنها إذا أصبحت رئيسة، ستحرص على «تعزيز قيادتنا العالمية، وليس التخلي عنها».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»