يروي كتاب «غزاةٌ وحكام وتجار» لمؤلفه ديفيد شافيتز، الباحث في شؤون غرب آسيا وأحد المساهمين في مجلة «ذي آسيان ريفيو أوف بوكس»، تاريخ تعلّم الإنسان ركوب الحصان وتطبيبه ثم استخدامه لغزو جزء كبير من الكرة الأرضية. وبعد قراءته لعيون الأدب الأوراسي، يخلص شافيتز إلى أن حليب الخيل هو المكان حيث «تبدأ قصة اشتباك الإنسان مع الخيول».
فمع شروع إنسان العصر البرونزي في السهوب المنغولية في تربية الخيول من أجل لحومها، أخذ الرعاة يستطيبون حليبها الذي يدعى «الكوميس». واتضح أن الأفراس التي تُربّى من أجل إنتاج كميات أكبر من الحليب هي الأفراس الممتلئة أكثر بـ«هرمون الحب»، مما يؤدي، حسب الأسطورة، إلى التفاعل الكيميائي الذي يجعل الحصان أقل ميلاً لاعتبار البشر مفترسين محتملين والفرار منهم. وهكذا، تعمّقت العلاقة وقادت الخيول الرعاةَ إلى سهوب أوراسيا، لتربط ما يعرف الآن بأوروبا الشرقية بالصين والهند.
ظهرت العربات قبل ظهور السروج، وقد كانت خفيفة الوزن وكانت تصنع من خشب البتولا في الغالب. ومع ظهور العربات في المعارك، اكتسبت الخيول قيمةً جديدةً. فقام الرعاة بتربية حصان الحرب، ووجدوا فيه الجندي المثالي. وفي هذا الصدد، كتب شافيتز يقول: «لا يوجد حيوان آخر من ذوات الأربع يقفز فوق الحواجز، ويجتاز النيران والانفجارات، أو يواصل القتال عند إصابته. فحوّل البشرُ غريزة القتال أو الفرار لدى الحصان إلى سلاح من أجل هجمات الفرسان الجماعية».
ولاحقاً، تغلب المحاربون الخيّالة من السهوب الغربية على المحاربين الذين يقودون عربات تجرّها أحصنة، فتغيّر التوازن بين سكان مدن البحر الأبيض المتوسط المستقرة والرعاة الأكثر ترحالاً في السهوب النائية. وفي هذا السياق، كتب شافيتز يقول: «حتى أمم السهوب الصغيرة نسبياً كانت تستطيع مهاجمة دول مستقرة وقوية وهزيمتها». ثم سرعان ما احتاجت الحضارات العظيمة أعداداً كبيرة من الخيول. فأنشأ كورش العظيم في بلاد فارس، مثلاً، مزارع لتربية الخيول في القرن السادس قبل الميلاد. ويقول تشافيز، إن الخيول الفارسية كانت «قوية، وممتلئة الجسم، وذات خطوم تشبه خطوم الكباش على النقوش في (عاصمة الإمبراطورية) برسيبوليس».
كتاب «غزاةٌ وحكام وتجار» أشبه برحلة مثيرة عبر ألفي سنة في صعود الإمبراطوريات. ففي القرن الثالث قبل الميلاد، حشد مؤسس سلالة تشين ما يكفي من الخيول لتوحيد الصين. ولكن حينما كان المربّون يُدخلون بعضها إلى المدينة، خشوا عليها من افتقاد السهوب (وهذا هو القلق الذي ألمح إليه الشاعر ليو يوكسي الذي عاش في القرن التاسع، والذي كان يحتفظ بحصانه «في إسطبل مظلم ورطب»، إذ قال: «ضربتُه بسوط، ولم أكن أعرف أنه كان يحاول الصعود إلى السحاب»). وبعد نحو قرن على ذلك التاريخ، ظهر «طريق الحرير» الذي ينظر إليه شافيتز باعتباره سلسلة من المراكز الخاصة بتجارة الخيول.
وفي القرن الثالث عشر، حشد جنكيز خان 10 ملايين حصان، أي ربما ما يعادل نصف مجموع خيول العالم. وبفضلها سيطر أحفادُه على 16 في المئة من مساحة الأرض. ولأنه ينحدر أصلاً من السهوب، فهم خان كيف يكيّف الممارسات الرعوية التقليدية لتحقيق ميزة عسكرية، وخلص إلى أن الخيول التي تُجلب للرعي في المراعي من أجل لحومها وحليبها وجلودها يمكن أيضاً بعد تكاثرها تسخيرها للقتال واستخدامها في المعارك، وهو ما وفّر للإمبراطورية المغولية نوعاً من المصانع الحربية المتحركة. وكتب شافيتز في هذا السياق يقول: «كانت وحدات الجيش تتنقل مع القطعان التي يمتلكها جنودها وعائلاتهم. وبهذه الطريقة، تم نقل 17 مليون رأس من الماشية إلى إيران».
فأصبحت حرفة إدارة الدولة هي حرفة تربية لخيول، ولكن ليس للأبد. ففي خمسينيات القرن الثامن عشر، شنّت أسرة تشينغ الحاكمة هجوماً كاسحاً على الأويرات الغزاة الذين كانوا يرفضون الاستسلام للصين، ولكنها فقدت السيطرة على الصين في نهاية المطاف حينما بزّت القوةُ البحرية الحديثة خيولَهم.
سرد شافيتز يغدو أقل تفصيلاً حينما ينتقل للحديث عن كيف أعاق احتلالُ الإمبراطورية البريطانية للهند قدرتَها على تربية الخيول الملائمة للمنطقة: فظناً منهم أنهم أكثر معرفة وأوسع خبرة، أصرّ مسؤولو الحكم البريطاني في الهند على تهجين خيول جنوب آسيا ومزاوجتها بخيول أُحضرت من إنجلترا، والتي كانت خيولاً تستطيع الركض بسرعة ولكنها لا تقوى على السير لمسافات طويلة. وكتب تشافيتز يقول: «إن الافتراضات العنصرية البريطانية عقّدت الجهود المبذولة لاستغلال قوة خيول الهند المحلية».
ولعل الغائب الأبرز في سرد شافيتز هو ثقافة الخيول في سهوب أميركا الشمالية. ففي القرن السابع عشر الميلادي، استخدمت مجتمعات بويبلو (الأميركية الأصلية) الخيولَ لطرد الإسبان، وتعرّض سلاحُ الخيالة الأميركي للهزيمة عدة مرات، رغم وجود السكك الحديدية التي تدعمه، على أيدي أفراد قبائل نيز بيرسي وأباتشي وكومانشي (الأميركية الأصلية) الذين كانوا يركبون الخيول.
وحينما جرى دمج سهوب أميركا الشمالية في الولايات المتحدة الأميركية أخيراً، حلّت المحاصيلُ محل العشب والسككُ الحديدية محل العربات التي تجرّها الأحصنة في توصيل البريد. ثم اختفت الخيول من الخرائط التقليدية للإمبراطوريات، وساعدت في إطلاق الثورة الصناعية بهدوء، ما أدى إلى انتقالها إلى مدن تعجّ أصلاً بالبشر، وتسخيرها في عمليات التعدين التي أصبحت منتشرة عبر العالم.
وترسّخت رأسمالية السوق، ومع تدهور قيمة العلاقة بين الحصان والإنسان في نظر صانعي الإمبراطورية، تغيّر دور الحصان. فباتت بعض المستشفيات توصي مرضاها بالعلاج بالخيول، وصار الإنسان يلجأ إلى رفاقه القدامى لمساعدته على تهدئة قلق أطفاله، وتسهيل اندماج الخارجين حديثاً من السجن في المجتمع، ومساعدة الجنود العائدين من ساحات القتال على التعافي.
محمد وقيف
الكتاب: غزاةٌ وحكام وتجار.. الحصان وصعود الإمبراطوريات
المؤلف: ديفيد تشافيز
الناشر: نورتون
تاريخ النشر: يوليو