في جولته الأخيرة في دول الساحل الأفريقي، اعتبر رئيس الوزراء السنغالي الجديد عثمان صونكو أن نخب القارة ترغب بقوة في القطيعة مع البراديغم الاستعماري الذي لا يزال مسيطراً على العقل الأوروبي رغم مرور أكثر من ستين سنة على استقلال الدول الأفريقية. في البرازيل، كبرى دول أميركا اللاتينية، ذهب الرئيس لولا دا سيلفا في الاتجاه نفسه، مقرراً أن عهد المركزية الغربية انتهى، ولا معنى لتحرر بلدان الجنوب الشامل إلا بفرض استقلالها الثقافي والفكري.
ليست هذه النغمة جديدة، لكنها انتقلت من الكتابات الفكرية إلى قلب العمل السياسي، وأصبحت هي الاتجاه الغالب على النخب الحاكمة في العديد من بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية. في هذا السياق، يجدر التمييز بين مصطلحين متقاربين هما «نزع الاستعمار» و«ما بعد الاستعمار».
العبارة الأولى ظهرت في أدبيات أميركا اللاتينية منذ بداية القرن العشرين في إطار الإشكالية التي عرفت بصراع الهوية المحلية والاستيطان الأوروبي، ووصلت إلى مداها في نظرية التبعية التي برزت في الأدبيات اليسارية من خلال نقد المركز الرأسمالي في علاقته بالهوامش الجنوبية الخلفية، ثم «لاهوت التحرر» الذي انبثق من داخل التقليد الكاثوليكي موجها النظر إلى المسألة الاجتماعية ومحاربة الفقر والاستغلال الطبقي. أما تيار «ما بعد الاستعمار» فقد ظهر أساساً في الهند في سياق «دراسات التابع» ثم في أفريقيا جنوب الصحراء.
ما يميز هذا التيار هو انتقاله من سؤال الهيمنة السياسية والاقتصادية إلى التركيز على التمثلات الاستعمارية وشكل الخطاب التصنيفي والمعياري الغربي، وآليات وسبل ترويض الجسم المستعبد ثم المستغل والمستعمر من خلال قبضة سلطة حيوية سيادية وقمعية (بما نلمسه بوضوح في أعمال الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل بمبة وبصفة خاصة في كتابيه نقد العقل الزنجي ونزعة ما بعد الاستعمار).
وبغض النظر عن خطاب المقاومة التقليدي في الأدبيات العربية، يمكن أن نشير إلى أن مساهمة المفكرين العرب في بلورة سردية ما بعد الاستعمار كانت أساسية، من خلال كتاب المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر سنة 1978، من حيث كونه الوثيقة النظرية الرئيسية لهذا التيار.
في كتاب سعيد توظيف غير مسبوق لأطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في سلطة الخطاب وثنائية المعرفة والقوة، من أجل نقد راديكالي للاستشراق بصفته نوعاً من إرادة الحقيقة غرضها اختراع شرق خاضع ومقصي ومشوه في ما وراء حجاب العلومية الزائفة. لقد طور مفكرو ما بعد الاستعمار هذه النظرية وطبقوها على سياقات مجتمعية وثقافية عديدة، ووضعوا جهازها الإبستمولوجي الخاص ورؤيتها المتميزة للتاريخ والبنيات الاجتماعية.
في الاتجاه نفسه، حاول المفكر المصري الراحل حسن حنفي تصدير لاهوت التحرر اللاتيني الأميركي إلى التراث الإسلامي من خلال علمه الكلامي الجديد المتمحور حول الثورة، قبل أن يكتب كتابه الجريء «الاستغراب» الذي أراده النقيض المباشر للاستشراق، وسعى من خلاله إلى «تحجيم» الغرب والنظر إليه في زمنيته التاريخية والمفهومية المحدودة (أي تشكل ثم نضوب الوعي الغربي). وعلى عكس كتاب إدوارد سعيد الذي كان تأثيره واسعاً، في ما وراء موضوعه الخاص بالاستشراق في نسخته الأدبية، لم يحظ مشروع حسن حنفي باهتمام كبير، سواء تعلق الأمر بـ«لاهوت الأرض والثورة» أو بعلمه الجديد «الاستغراب».
ظهر في السنوات الأخيرة بعض الاشتغال بأبيات ما بعد الاستعمار، خصوصاً دراسات التابع التي تحولت من الحقل الأكاديمي الضيق إلى الحركية السياسية والأيديولوجية، بما نلمسه بوضوح في ما يسمى في الولايات المتحدة الأميركية بموجة «اليقظة» woke التي تقوم على نقد أشكال المركزية والإقصاء في الأنساق الثقافية والقانونية السائدة، وتتجاوب مع أصناف النضال المدني ضد العنصرية والهيمنة الذكورية والتمييز الاجتماعي. في العالم العربي، لا يزال الاهتمام بهذه الحركية ضعيفاً، في الوقت الذي يستمر فيه نقد الحداثة الأوروبية الذي بدأ في الخطاب الإسلامي المؤدلج والسطحي مبكراً، وتطور راهناً في كتاب الباحث في الفقه الإسلامي وائل حلاق «قصور الاستشراق».
أما في أفريقيا جنوب الصحراء، فقد أصبح تيار ما بعد الاستعمار هو القوة الصاعدة في سياق تَطبعُه القطيعة المتنامية مع القوى الغربية الكبرى، وإنْ كان في عمقه محاولة ملتبسة وغير واعية لتحقيق وعود الحداثة والتنوير، التي فشلت في إنجازها نخب الاستقلال الأولى والأنظمة الديمقراطية المتعثرة.
*أكاديمي موريتاني